منذ نحو ثلاثة وخمسين عاما يتخذ كفيف سبعيني من ناصية احد زقاق وسط البلد مكانا لكسب العيش متقنا فن التعامل المالي وتمييز كل فئات العملة حين يستند على الخبرة وامانه زبائنه , مشيعا جوا من الثقة المتبادلة .
تقاسيم الزمن والحزن والتعب بادية على وجهه , كيف لا وهو العجوز الذي يمتطي صهوة الفجر من بيته الذي يقطنه بالاجرة الشهرية في منطقة الرصيفة الى وسط البلد , لا يتاخر عن مكانه , منضبطا ومبرمجا , فلا شي يعرفه بالدنيا الا طريقه اليومي الى تلك ” البسطة ” كما يقول لوكالة الانباء الاردنية ” بترا ” .
هو فاقد للبصر منذ الطفولة , لكن بصيرته الفذة قادته لتمييز كل فئات العملات سواء اكانت اردنية ام غيرها , حيث يعيد بقية المال للزبائن بدقة متناهية لقاء ما يبيعه لهم من نثريات .
يعتمد على صدق الناس وامانتهم فلم يحاول احدهم الاحتيال عليه , كما يشير , او عدم اعطائه حقه كاملا , وهو يعرف ذلك عندما يحصي ( الغلة ) اليومية , بل انه في احايين يجد ان حصاده المالي اليومي قد زاد بضعة دنانير , مرد ذلك وفقا له الى كرم واصالة الناس .
زبائنه يترددون عليه منذ عشرات الاعوام , يعرفهم مليا كما ويعرف عنهم القصص والحكايات حين يشاطرونه المكان الذي يتحول بين الفينة والاخرى الى استراحة من ضوضاء المكان تعيدهم لحكايات الحنين .
يعاني السبعيني من الفقر وقلة الحيلة , ولكنه ابى استدراج عطف الناس عبر التسول , معزا نفسه ومحافظا على كرامته , مفضلا تجارة متواضعة تؤمن الخبز واجرة المواصلات وقليل مما يجود به البيت وفقا له .
يعود يوميا الى بيته مشتاق اليه بعد غياب عنه لحوالي 15 ساعة , تستقبله زوجته وبناته الثلاثة غير المتزوجات , اذ انه يعمل لاجلهن , حتى لا يحتجن احدا , كما ان ولديه وهما اربعينيان متزوجان يعيشان كفاف يومهما حيث يعملان في محلات لبيع الادوات المنزلية وبالكاد يكفيان عائليتهما .
يقول وهو يشعر بقناعة عز نظيرها : لا يوجد اجمل من عمان التي اترزق من عتباتها , وان لم اكن قد رأيتها يوما فانني استشعر جمالها , اسمع المارة كيف يعبرون عن غبطتهم في قضاء سحابات اليوم في قاع المدينة , ينهلون من عبق تاريخها خصوصية الترويح عن النفس .
ويضيف ( من يرضى يعيش ) , فلم اشعر يوما انني بحاجة لاحد , والعمل عبادة , لذلك اجدني دائما مرتاح البال , قانع بما قسمه الله لي عز وجل .
يقول احمد وهو من سكان محافظة الزرقاء انه لا يمكن ان يقصد قاع المدينة دون ان يمر على بائع البسطة يتفقد احواله , وان كان لا يحتاج لشراء شيء , اذ انه متعلق به كجزء من صورة المكان .
ويتابع ان قدرة هذا البائع على معرفة فئات العملة وخاصة المعدنية منها مدهشة .
اما الستيني ابو ايمن , فيرى في بائع النثريات املا لا يراه لدى بعض من الشباب العاطل عن العمل , وارادة تتحدى المستحيل , مشيرا الى انه لم يقصد وسط البلد يوما ووجده ” غائبا ” عن المكان , ما يشير الى مثابرته وصبره بمعزل عما يبيعه , فالرسالة منه ومن تاريخه انسانية بامتياز .
يرى استاذ الفقه في الجامعة الاردنية الدكتور عبد الرحمن الكيلاني ان التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة ينطلق بالدرجة الاولى من الوازع الديني و التعامل الانساني القائم على الثقة والامانة والصدق مثنيا على هذا الكفيف وامثاله ممن ارتضوا العبادة عبر العمل .
ويضيف ان الاحسان الى الخلق هو بوابة الوصول الى الخالق , اذ علمتنا السنة النبوية الشريف ان احب الناس الى الله هو انفعهم للناس مفتخرا بالارادة وعزة النفس والانفة التي يتحلى بها هذا الكفيف ما منعه من السؤال فيعطى او يمنع .
ويشير الى ان قصة السبعيني تعد درسا جميلا يشيع حسن الظن بين الناس وروح الثقة والصدق .
نحن امام قصة انسانية تتصدرها الاخلاق النبيلة كما يقول الاستشاري الاجتماعي الدكتور فيصل غرايبة الذي يؤكد قيمة العمل كمنطلق للعيش الكريم العفيف بعيدا عن ذل السؤال مشيرا الى ان تحدي البصيرة هو دافع اقوى بكثير من بعض الارادات المسلوبة لمبصرين من استسهلوا الحصول على معونات واتكلوا على الغير في عبرة عظيمة لمن سلك سبلا غير مشروعة للحصول على المال .
وبممارسته لعمل شريف منتج يمثل صاحب القصة نموذجا مشرفا لذوي الاحتياجات الخاصة , اذ لم تقعده اعاقته عن العمل ولم تقده الى النكوص او التطفل او الاتكال .