سألني الشرطي الذي كان يقف على بابي: «هل هذا ابنك؟». في تلك اللحظة رأيتُ ابني «فين» الذي كان حينها في عمر الرابعة وكان يرتدي قميصاً قطنياً وحفاضاً ويبدو قذراً بعض الشيء لكن لم تظهر عليه ملامح الانزعاج. فأجبتُه: «نعم». ثم أخبرني الشرطي: «بلّغ جارك عن وجود صبي صغير في موقف السيارات المجاور. كان يهز جسمه ويعضّ يده». شعرتُ بالرعب لأنني ظننت أنه مع مربيته التي كانت تنظف الطابق العلوي بالمكنسة الكهربائية. وكانت شقيقتي تظن أنه معي …
خرج {فين} من المنزل من دون أن ينتبه أحد. حصل الأمر للمرة الثانية في ذلك الشهر. وبما أنه هرب للمرة الثانية، اضطررنا أنا وزوجي إلى تقديم بلاغ. شعرتُ بالذنب والقلق: كيف يمكن أن نكون مهمِلين لهذه الدرجة؟ هل سيأخذون {فين} منا؟ هل يجب أن نعلّق جهاز تعقّب حول كاحله؟ نظرتُ إليه وشعرتُ بوخز في بطني. كان يجب أن نبني البوابة. لماذا لم يشيّد البوابة؟ كانت تلك الخطوة واحدة من الأمور الكثيرة التي يجب أن نفعلها لأجل ابننا المصاب بالتوحد وضعف البصر القشري، وكان يجب أن نحقق بالخيارات المتوافرة في المقاطعة، وأن نبحث عن منشآت توفر له الرعاية الموقتة، ونحدد كيفية الاستفادة من منافع الرعاية الشخصية. كان بناء البوابة مجرد خطوة على تلك اللائحة وقد فشلنا في تنفيذها. تساءلتُ عما إذا كانت تلك الإخفاقات تعكس فشلنا كثنائي.
بعد تشخيص المرض عند {فين}، كنت أقرأ بشكل متكرر عن الإحصائيات التي تفيد بأن 80% من أهالي الأطفال المصابين بالتوحد يطلّقون. لكني علمتُ منذ فترة قصيرة عدم وجود أي أساس واضح لهذه الأرقام. نُشرت دراسة في عام 2012 في مجلة {التوحد واضطرابات النمو} وقد استندت إلى بيانات تشمل 77911 طفلاً ضمن {المسح الوطني لصحة الأطفال} في عام 2007 في الولايات المتحدة، لكنها لم تجد أدلة تشير إلى أن الأطفال الأميركيين المصابين باضطراب طيف التوحد يكونون أكثر عرضة للعيش في منزل من دون أبوين مقارنةً بالأطفال الذين ينمون بشكل طبيعي.
لكن في عام 2010، كشف باحثون في جامعة ويسكونسن- ماديسون أن دراسة شملت 391 عائلة أظهرت أن أهالي الأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد كانوا أكثر عرضة للطلاق بنسبة مضاعفة من الثنائيات التي تنجب أولاداً من دون إعاقات. (ثمة نتيجة مهمة: لا تظهر الاختلافات في معدلات الطلاق بين الفئتين قبل أن يبلغ الأولاد مرحلة المراهقة أو سن الرشد).
حتى لو تضاربت الإحصاءات، لا تشير أي دراسة إلى أن معدل الطلاق يقترب من 80% ضمن فئة أهالي الأولاد المصابين باضطراب طيف التوحد. انتشار هذه المعلومات المغلوطة {يوجه رسالة خاطئة مفادها أن العائلات ستنهار، مع أن الوضع الحقيقي ليس كذلك بالضرورة} بحسب قول براين فريدمان، عالم نفسي في {مركز دراسات الإعاقة} التابع لجامعة ديلاوير، وهو المعد الأساسي لدراسة جرت في عام 2012. يوضح: {تلك الأرقام تجعل الأهالي يفترضون أن زواجهم محكوم بالفشل}.
لكن يوافق الخبراء على أن الضغط النفسي الذي يرافق الاعتناء بطفل مصاب بالتوحد يكون كبيراً. يذكر أندرو سولومون، مُعِدّ دراسة بعنوان {بعيداً عن الشجرة} (Far from the Tree) وتحلل كيف يتعامل الأهل مع الأطفال الاستثنائيين (بما في ذلك الأولاد المصابين بإعاقات)، أن التوحد فريد من نوعه نظراً إلى طبيعة الأعباء المفروضة على الأهل: {لا يتوقع الأهل أن يتخلص الأولاد المصابون بمتلازمة داون من مشكلتهم نهائياً. لكن في حالة التوحد، ثمة عدد كاف من الأشخاص الذين يتجاوبون مع العلاج لدرجة أن الأهل يشعرون بأن واجبهم الأخلاقي يجبرهم على مساعدة أولادهم لتحسين حالتهم}.
ما يصفه سولومون بعبارة {أدبيات المعجزات} يدفع بعض الأهالي إلى بذل قصارى جهدهم لتجربة مختلف الخيارات المتوافرة (حتى لو لم تكن مثبتة علمياً وحتى لو أدت إلى إفلاس العائلة)، ما قد يؤدي إلى إجهاد العلاقة الزوجية، لا سيما إذا كان أحد الأبوين لا يشارك الآخر الحماسة نفسها. ويمكن أن تتعزز مشاكل الثنائي حين تنشأ خلافات حول طريقة تقسيم واجبات العناية بالطفل فضلاً عن غياب أي شبكة دعم لمواجهة الحالة.
لكن لا يعني ذلك أن الأزواج لا يستطيعون تجاوز هذا الوضع الصعب. تقول سيغان هارتلي، المعدّة الأساسية لتقرير صدر في عام 2010: {ثمة تنوع كبير على مستوى النتائج. بالنسبة إلى بعض الأهالي، يغير الضغط النفسي العلاقة الثنائية بطريقة سلبية. لكن استناداً إلى دراساتنا الأولية، قد يكون العكس صحيحاً أيضاً. تتطور علاقة بعض الثنائيات التي تعتبر أنها تتقرّب من بعضها نتيجة تجاربها الاستثنائية عند إنجاب طفل مصاب باضطراب طيف التوحد}.
أعباء الحزن
ظهر التصدع في علاقة ألكسندرا ونيك بعد فترة قصيرة من تشخيص المرض عند ابنهما وكانت ألكسندرا حينها حاملاً بطفلهما الثاني. تواجه ثنائيات كثيرة أكبر المصاعب خلال الفترة التي تلي التشخيص بحسب قول مايكل مانسوزي، معالج متخصص بالعلاقات الزوجية في ماساتشوستس وهو خبير في العمل مع أهالي المصابين بالتوحد: {عموماً، تتراكم المخاوف بوتيرة بطيئة قبل فترة طويلة من التشخيص الفعلي. وبعد صدور التشخيص، ينهار الوضع}. من الطبيعي أن يحزن الأهل على الطفل الذي لا يعيش في ظروف طبيعية وعلى الحياة التي كانوا يتوقعونها.
لكن للأسف، نادراً ما يحزن الناس بالطريقة نفسها أو بالوتيرة عينها بحسب قول الأستاذة لورا مارشاك من جامعة بنسلفانيا، وهي شاركت في إعداد دراسة بعنوان {الأزواج مع أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة}. تقول مارشاك: {غالباً ما يتوقع الأزواج أن يتشاركوا الحزن معاً، لكنه توقّع غير واقعي ويمكن أن يؤدي إلى مشاكل إضافية}. قد يرغب أحد الزوجين في التكلم بالموضوع بينما يفضل الآخر التزام الصمت. توضح ألكسندرا: {أردتُ أن أغرق في قراءة الكتب وأن أتحدث مع المعالجين. لكن أرادني نيك أن أكون صديقته المقربة وأن أفهم ما يشعر به من دون أن يتكلم}.
في حالات مماثلة، قد لا يكون الشريك الجهة المناسبة لتقديم الدعم مع أنه الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يفهم حقيقة الضغط الذي يرافق هذا الوضع. قد يؤدي التفاعل مع التشخيص بطريقة مختلفة إلى نشوء مشاعر المرارة وتباعد المسافة بين الزوجين كما تقول مارشاك. يجب أن يسمح كل شخص لشريكه بأن يعبّر عن مشاعره بطريقته الخاصة.
مع مرور الوقت، يتكيف الزوجان مع الواقع الجديد، وقد تمهد مشاعر الحزن لنشوء الشعور بالذنب لأنهما لا يستطيعان بذل المزيد لطفلهما. شخصياً مررتُ بهذه الحالة. في عمر الخامسة والنصف، كان ابننا {فين} لا يزال يعجز عن الكلام أو ارتداء ملابسه أو دخول الحمّام وحده. وإذا حصل على الحليب بدل العصير أو أُخرج من الملعب قبل أن يكون مستعداً، كان يصرخ ويضرب أو يعضّ بطريقة عدائية جداً. صحيح أننا نتعاون مع فريق من المعالجين والأساتذة في حضانته، لكني لا أستطيع أن أمنع نفسي من التساؤل: لو أننا لجأنا إلى العلاجات التجريبية أو جعلناه يخضع لبرنامج سلوكي أكثر صرامة في سن مبكرة، هل كان ليصبح بمستوى نظرائه الذين يتفوقون عليه؟
يذكر سولومون أن هذا النوع من مشاعر الذنب شائع جداً: {لم يتّضح بعد ما يجعل البعض يتجاوزون أصعب جوانب التوحد بينما لا ينجح البعض الآخر في تخطي الصدمة، لذا يتساءل الأهل في النهاية عما إذا كانوا يستطيعون فعل المزيد}.
في مرحلة تشخيص المرض عند {فين}، قررتُ أنني لو طبقتُ جميع الخيارات العلاجية الممكنة (بدءاً من حذف الغلوتين والكازين من حميته الغذائية وصولاً إلى العلاج بركوب الخيل)، كانت حياتي لتختفي نهائياً. كنت لأضطر إلى التخلي عن مهنتي وكنت لأفقد طاقتي وأعجز عن الاعتناء بابنتي وأصدقائي أو تخصيص الوقت لاهتمامات أخرى تمنح المعنى لحياتي. لكني لا أستطيع أن أُسْكِت الفكرة القائلة إنني أم غير كفوءة بسبب هذا القرار. كذلك أشعر بالغضب من زوجي جيف. أعلم أنه لا يحارب المشاعر نفسها كونه رجل البيت ومعيل العائلة.
بحسب رأي مارشاك، غالباً ما تكون مشاعر الذنب أكثر حدة عند الأم {بسبب المفهوم العام الذي يربط بين التضحية بالذات وتربية الأولاد}. لكن يجب أن يتذكر بعض الأمهات أن {فئة كبيرة من النساء يكتشفن أنهن يصبحن أمهات وشريكات أفضل لأنهن يرسمن الحدود ويقرّرن إلى أي حد سيسمحن للتوحد باستنزاف حياتهن}. بحسب رأيها، اتخذنا أنا وجيف المقاربة الصائبة. كي يشعر أهالي الأولاد المصابين بالتوحد بالرضى ويحافظوا على استقرار زواجهم، {يجب أن يرسموا الحدود اللازمة للحفاظ على نوعية حياتهم}.
علاقة قوية
بعدما أنجبت دورين الطفلة جاني، تركت وظيفتها وخططت للعودة إلى عملها الاجتماعي حين تكبر ابنتاها. لكن تبين أن الأمر مستحيل نظراً إلى وضع جاني التي تحتاج إلى رعاية متواصلة. زاد بيل تركيزه على عمله. لكن كان مدخوله غير ثابت ولم يتفق مع دورين على خطة مالية محددة. في مرحلة معينة، بعد ارتفاع قيمة الأقساط الشهرية، قرر بيل ادخار المال عبر التخلي عن خدمة التأمين الصحي. اكتشفت دورين هذا الأمر حين ذهبت لشراء الأدوية. فقالت له: {إما أن نتخذ هذا النوع من القرارات معاً أو تنتهي علاقتنا}. وهكذا انتهت العلاقة.
لا تلوم دورين مرض جاني على فشل زواجها: {لو لم تكن جاني مصابة بالتوحد، هل كان يمكن أن نتجاوز مشاكلنا؟ ربما! أدى وضعنا إلى تضخيم المشاكل التي كنا نواجهها أصلاً}. تقول دورين إن الضغط النفسي تراجع في حياتها بعد أربع سنوات على انفصالها عن بيل.
يقول سولومون إن {الأزواج الذين يواجهون أصلاً زواجاً هشاً قد يبدأون بالتباعد} لأن تربية الأولاد المصابين بإعاقات حادة تضخّم الشوائب الموجودة أصلاً في أي علاقة. العلاقات التي ترتكز على أسس هشة قد تنكشف بوتيرة أسرع في حال وجود هذا النوع من المشاكل. توافق هارتلي على ذلك قائلة: {الثنائي الذي يفتقر إلى تواصل قوي أو القدرة على حل الخلافات قد يتأثر أكثر من غيره بالتحديات اليومية التي تفرضها حالة التوحد، وقد يكون زواجهما الأكثر عرضة للطلاق}.
عند مراجعة الأحداث، تدرك ألكسندرا أن نيك لم يتمتع يوماً بمهارات تنفيذية فاعلة: {أحتاج إلى شخص يستطيع أن ينظم حياته ولا يحتاج إلى من يملي عليه ما يفعله. انكشف هذا العيب بكل وضوح بعد إنجاب طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة}. توضح: {الزوجان ملزمان بأن يكونا أفضل أبوين ممكنين للأولاد، لكنّ الضغط النفسي يستنزف قدرتنا على تبادل الحب}. مع ذلك، لا يستطيعان تحمّل كلفة الطلاق. فهما يجدان صعوبة أصلاً في إعالة أسرة واحدة.
صحيح أن مشاكل التوحد قد تفكك أي زواج ضعيف، لكن يمكن أن تقوي الاختبارات نفسها العلاقات الصحية والمبنية على الدعم المتبادل. يوضح سولومون: {الأهل الذين ينعمون أصلاً بزواج قوي جداً منذ البداية قد يتضامنون للاعتناء بأولادهم}.
انطبقت هذه النظرية على كريستي ومارك اللذين لاحظا حركات ابنهما {الغريبة} حين كان في شهره الخامس. بالإضافة إلى تشخيص اضطراب طيف التوحد، كان كورتيس يعاني مجموعة من المشاكل الصحية الأخرى، مثل نقص الوزن والحجم الصغير أكثر من اللزوم. بدأ الزوجان فوراً يحاربان الأوساط الطبية التي لم تكن تفهم على ما يبدو كيف يرتبط اضطراب طيف التوحد لدى كورتيس بمشاكله الصحية الأخرى. يقول مارك: {لقد أحبطونا بالكامل!}. لكنّ هذه التجربة ساهمت في تقريب الزوجين من بعضهما البعض.
واجه الزوجان مشاكل مالية حين عيّنا لاحقاً محامياً لمقاضاة مدرسة عامة كان يرتادها {كورتيس} لكن ساء وضعه فيها. اضطر الزوجان إلى أخذ أيام عطلة لنقل ابنهما إلى مدرسة خاصة فيما كانت القضية قد وصلت إلى المحكمة، وانتقل الصبي في النهاية إلى مدرسة أخرى. ثم تكررت الخلافات بشأن غسل الأطباق وأمور منزلية أخرى.
لكن رغم هذه الانتكاسات، بقي الزوجان متقاربين. نشأ مارك في عائلة متفككة وكان مصرّاً على إنجاح زواجهما: {لم أكن أستطيع المغادرة}. تضيف كريستي: {لا يمكن أن نرمي حياتنا في مهب الريح بكل بساطة. يوفر كل منا أكبر دعم للآخر}.
ثمة سمة واحدة تميّز الثنائيات التي تحافظ على قوة علاقتها رغم الضغوط التي ترافق تربية طفل مصاب بالتوحد: المرونة. يقول مانسوزي: {أهم عامل في هذا المجال هو القدرة على التكيف بين الزوجين. الأشخاص الذين يستطيعون التواصل لتجاوز المشاكل الجدية وتحمّل الاختلافات من دون توسيع الفجوة في العلاقة هم الأشخاص الذين ينجحون. تعني القدرة على التكيف أيضاً اتخاذ الخطوات المناسبة لمحاربة الضغط النفسي مثل تطوير هوايات مشتركة وحياة روحية صحية.
بالنسبة إليّ أنا وجيف، كان العمل على تحقيق السعادة بهذه الطريقة أمراً بالغ الأهمية. نخصص وقتاً لحصص اليوغا من وقت إلى آخر أو للمشي صباحاً، أو نحاول فهم حقيقة كل واحد منا ككيان منفصل بعيداً عن دور الأهل. حتى إننا أخذنا عطلة لمدة أسبوع في الفترة الأخيرة مع ابنتنا وتركنا ابننا مع مربية، كي نتمكن من الاستمتاع بوقتنا كأي عائلة طبيعية أخرى: الأكل في الخارج، التمتع بالمناظر الطبيعية، زيارة الأصدقاء.
تساعدنا هذه الجهود على إدارة الضغط النفسي الذي يرافق الاعتناء بابننا فين، ما يسمح لنا بالتركيز على السعادة الحقيقية التي يوفرها لنا. حين يزحف فجأةً نحونا ويبدأ بمداعبتي أو بهز رأسه، أنظر إلى جيف وأنا أبتسم وكأنني أقول: {نعم هذا الصبي صعب المراس لكني مغرمة به!}. فيبتسم جيف بدوره لأننا ندرك أننا نفهم هذا الشعور ونتقاسم معاً هذه التجربة الفريدة من نوعها.
غياب الدعم
في عمر الثالثة، بالكاد تتكلم الطفلة إيما. حددت والدتها بالتبني جسيكا خطتها العلاجية. بصفتها معلّمة، تتبع مقاربة {التعلّم من كل لحظة}. لكنّ زوجها مايك يعتبر طريقتها صارمة أكثر من اللزوم وهو يبدو أقرب إلى إيما من جسيكا. اتضحت غيرة جسيكا من خلال قلة صبرها. في إحدى الأمسيات، وبّخت إيما بشدة بسبب تباطؤها في الاستجابة. فأمسكت إيما شعر جسيكا وشدّته بقوة لدرجة أن مايك اضطر إلى التدخل لتحريرها.
في وقت لاحق من تلك الأمسية، قال مايك: {يجب أن تتصرفي. لا يمكن أن أعيش في جو مماثل}. فبدأت جسيكا تقابل معالجاً نفسياً وأدركت أن عجز إيما عن التواصل معها يولّد مشاعر من الرفض. هي تقول: {أنا فهمتُ أن عدم تواصلها معي يعني أنني غير موجودة في نظرها كأم}. بعد فهم مصدر غضبها وغيرتها، تحسنت طريقة تواصلها مع {مايك}، فزادت قوة علاقتهما الزوجية.
دوروثيا لانوزي هي عاملة اجتماعية عيادية مستقلة ومرخصة وهي متخصصة بالعائلات التي تشمل حالات التوحد. بحسب رأيها، يُعتبر البحث عن الدعم عاملاً أساسياً لتعزيز قدرة الثنائي على مواجهة الضغط النفسي بعد تشخيص المرض وخلال مرحلة البحث عن الرعاية المناسبة. هي تقول: {يجب الحصول على أكبر قدر ممكن من الدعم، إذ يمكن الاستعانة بالأجداد والأصدقاء الذين يستطيعون مساعدة الأهل على الاعتناء بالأولاد، حتى لو اقتصر الأمر على ساعة في الأسبوع}.
في ما يخص ألكسندرا ونيك، هما لم يقيما بالقرب من أفراد العائلة وهما يندمان لأنهما لم يطلبا المساعدة من الآخرين في مرحلة مبكرة. تقول ألكسندرا: {لم نعلم إلى من نلجأ. لقد انغلقنا على ذاتنا وبدأ زواجنا يتدهور}. في الفترة الأخيرة، صادقت عائلات أخرى لديها أولاد من ذوي الاحتياجات الخاصة، وقد اعتبرت هذه الخطوة {أساسية} كي لا تفقد صوابها، مع أن الأوان قد فات لإنقاذ زواجها: {لم أعد أريد البقاء مع نيك وهو لا يريد أن يبقى معي}.
تعتبر الأستاذة سوزان باريش من جامعة برانديز، وهي مديرة {معهد لوري لسياسة الإعاقات}، أن تركيبة نظامنا الاجتماعي تولّد {عاصفة مثالية} من الضغط النفسي للثنائيات التي تشبه ألكسندرا ونيك. يجب أن يكون أهالي الأولاد المصابين بإعاقات، بما في ذلك التوحد، خبراء بشأن حالة أولادهم فضلاً عن سياسة التربية ونظام الرعاية الصحية والتدخل المبكر وقانون التأمين الصحي، علماً أن هذه الأمور تختلف من مكان إلى آخر. تقول باريش إن {المطالب التي يفرضها نظامنا عجيبة وغير قابلة للتنفيذ بالنسبة إلى العائلات}، معتبرةً أن أقل من 10% من التمويل المخصص لمعالجة الأولاد المصابين بعاهات خلقية يُستعمل لدعم العائلات: {إنه اختلال بنيوي. نتوقع من العائلات أن تهتم بأولادها لكننا لا نوفر لها دعماً مناسباً للقيام بذلك}.
نتيجةً لذلك، يتولى أحد الزوجين إدارة حالة الطفل. وإذا كان الشريك الآخر غير مطّلع بالقدر نفسه على العلاج، قد يؤدي عبء هذه المسؤولية إلى ظهور مشاعر البغض، وقد تنشأ الانقسامات وتتباعد المسافة بين الزوجين.
تقسيم الواجبات
بعد تشخيص مرض التوحد عند جاني قبل 12 سنة، حين كانت في الرابعة من عمرها، غاصت والدتها دورين في عالم {التحليل السلوكي التطبيقي}، وهو العلاج الذي أثبت أنه الأكثر فاعلية للمصابين باضطراب طيف التوحد. بدل التعلم من ذلك التحليل أو مرافقة دورين إلى مواعيد الطبيب، ركز زوجها بيل على إيجاد علاجات بديلة مثل علاج إزالة المعادن الثقيلة من الجسم وأخذ المكملات الغذائية. لكن لم تكن دورين مستعدة لصرف الأموال خارج إطار {التحليل السلوكي التطبيقي}. تقول: {كان ذلك الأمر الخط الفاصل بيننا}.
كذلك أمضى بيل، الذي يعمل لحسابه الخاص في مجال المبيعات، بضعة أيام في المنزل. حين لا يكون موجوداً، كانت دورين تعتني بابنتَيها (واحدة مصابة بالتوحد والأخرى بمرض عصبي) وحدها. كان بيل بعيداً عن خطة جاني التربوية لدرجة أنه اصطحبها في إحدى المرات إلى مدرسة خاطئة.
لم تنجح تقنية {تقسيم الواجبات لتحقيق الهدف} مع دورين وبيل، لكنّ هذه المقاربة في تربية الطفل المصاب بالتوحد لا تسيء إلى الزواج. يتوقف الكثير على قدرة الثنائي على التواصل واحترام مساهمات الشريك الآخر. توصي مارشاك الأزواج بالمواظبة على العمل الجماعي، حتى في حال توزيع الأدوار: {يجب أن يفهم الزوجان أن الأدوار قابلة للتعديل ويمكن أن يفرضا تغيرات كبرى في تقسيم الأدوار}.
أثبتت هذه المرونة أنها فاعلة بالنسبة إلى جوش وباميلا في التعامل مع ابنهما أوين (5 سنوات) الذي شُخص لديه مرض التوحد بعد فترة قصيرة من انتقال الثنائي من بروكلين إلى كامبريدج كي يتمكن جوش من الاستفادة من منحة مرموقة كانت لتحسّن مهنته كعازف بيانو كلاسيكي. كانت باميلا تستقل وسائل النقل العامة لبلوغ مكان عملها في وول ستريت وكان جوش يستطيع تخصيص وقت أطول للاعتناء بالطفل أوين. كانت تلك السنة مشحونة بالضغوط، لا سيما بالنسبة إلى جوش. يتذكر: {بدل نسخ سجلات من أرشيف جامعة هارفارد، كنت أنسخ تقارير عن علم النفس العصبي. لم أحقق ما أردته}.
مع ذلك، وجد الثنائي مقاربة ناجحة لإدارة وضع العائلة. في عمر الخمسين، يشعر جوش بأنه ركز على مهنته طوال عقود كافية، لذا بات يتولى بنفسه اصطحاب الأولاد وإرجاعهم في ساعة متأخرة من المدرسة لتجنب زحمة السير التي تزعج أوين وتعزز مشاكله الحسية. كل ليلة، يقوم جوش بتدليك أوين. هو يأسف أحياناً لأنه لم يعد يتمرن على العزف بما يكفي، لكنه يشعر في النهاية بأن وجوده مع أوين يحسّن حالته، وربما ينطبق الأمر نفسه على علاقته الزوجية أيضاً.
تدعم باميلا العائلة وتحرص على الاطلاع على المستجدات كافة وتحضر اجتماعات أوين وتعرف ما يفعله جوش. يقول الأخير: {هي تشيد بما أفعله لتحسين حالة أوين وأنا أقدّر ذلك}. إنها مقاربة حكيمة. بغض النظر عن طريقة تقسيم الواجبات بين الزوجين، يجب أن يحرص الشخص الذين يتولى الاعتناء بالطفل على إطلاع الشريك على العلاج. من الضروري أيضاً أن يدرك المعيل الأساسي حجم الأعباء العاطفية التي يتحمّلها الشريك الذي يركز على الاعتناء بالأولاد.