تعتري عملية تشخيص الإضطرابات العقلية لدى الشخاص الراشدين ذوي الإعاقة العقلية العديد من الصعوبات حيث يلاحظ أولاً أن المعايير التشخيصية لمعظم الإضطرابات العقلية تستخدم معايير ذاتية مثل إيراد معلومات عن المزاج وفقدان الطاقة والأفكار المتكلفة والأوهام والهلوسات. على أنه ليس بمقدور المرضى الذين لديهم إعاقة عقلية أن يعبروا عن تجاربهم الشخصية بدقة. ثم إن بعض أولئك المرضى يتمتعون بقدرة محدودة، او حتى معدومة، على التكلم. والشيء الآخر إن تمييز السلوك النمائي والتفكير عن علم النفس المرضي يطرح صعوبات أخرى.
على سبيل المثال ربما يتصور طفل عمره 6 سنوات أن لديه صديقاً خيالياً؛ هنا يتعين علينا أن نميز، في حالة الشخص الراشد الذي لديه إعاقة عقلية حيث يمتلك عمراً ذهنياً لطفل عمره 6 سنوات، بين الصديق الخيالي الطبيعي والهلوسات التي تدل على الاضطراب الذهاني psychotic. وفي الإطار ذاته فإن الحكم على مواصفات العلاقات الإجتماعية التي نعتبرها أحد الجوانب الأساسية للإضطراب التوحدي، تقتضي بأن تكون العلاقات الإجتماعية للشخص المعني غير سوية، كما يبدو للعيان، مقارنة بما يمكن أن نتوقعه من شخص لديه درجة من الإعاقة العقلية تلك فضلاً عن النماء الاجتماعي.
إن العدوان يشكل أكثر الأعراض شيوعاً والتي تستدعي الاهتمام الطبي والنفسي بالأفراد الذين لديهم إعاقة عقلية. في هذا السياق ربما يبدي المرضى الذين لديهم انفصام الشخصية والاضطرابات التي ربما تتسبب في ايذائهم أو الكآبة عدوانية مفرطة. ومع ذلك فإننا لا نستخدم مثل هذا العرض symptom لتحديد الاضطراب إنما نعمد إلى تجاوزه لتحديد أعراض أخرى يمكن الإستناد إليها في بلورة تشخيصنا. ويتعين علينا في إطار تقييمنا التشخيصي لشخص راشد نموذجي لديه إعاقة عقلية أن لا نعير أهمية للعدوانية الواضحة تماما للعيان، وهو الأمر الذي يثير أكبر قدر من القلق من قبل العائلة أو من يهتم بذلك الشخص، وأن نعمد إلى تحديد الأعراض المصاحبة بهدف الوصول إلى التشخيص. والسؤال الحاسم في هذا الشأن يتصل في ما إذا كان المريض يكاد يبلغ المعايير التشخيصية المعبّر عنها في الـ DSM والمتعلقة باضطراب ما حيث أننا لا يمكن أن نصل في الكثير من الحالات إلى عتبة المعايير المقبولة.
وعلينا من ناحية أخرى أن نقرر ما إذا كانت الأعراض العدوانية تمثل حالة نفسية مرضية أو استجابة طبيعية للحالات غير الطبيعية. والكثير من الأشخاص الراشدين الذين لديهم إعاقة عقلية يعيشون في كنف ظروف غير مؤاتية، فهم مثلاً يحظون باستقلال ذاتي يقل كثيراً عن الأشخاص الآخرين، وعليه فإن غالبيتهم تعتمد على أفراد العائلة أو من يهتم بهم ممن يوجهونهم على الدوام فيما يتعين عليهم عمله. وهم بذلك يلاحظون أن الأشخاص الراشدين ـ غير المعاقين ـ من حولهم يتمتعون بالكثير من الامتيازات الأخرى التي لا يحظون هم بها أنفسهم، وبذا فإن رغبتهم لإقامة صلات طبيعية تتعرض للإحباط، الأمر الذي يدفعهم للشعور بالغضب والخيبة إلى حد ما. ولربما تعرقل الإعاقة العقلية التي يعاني منها الشخص ذو الإعاقة عملية التعبير عن ذلك الاحباط بوسائل غير عدوانية مثل الكلام أو البحث عن رفاق آخرين أو الانتقال إلى مكان عيش مختلف.
أضف إلى ذلك أن أولئك الأشخاص عرضة للأذى الجسدي مما يضاف إلى الأسباب التي تثير الغضب. كما أنهم يفتقرون إلى المقدرة على الشكوى ويبحثون عن تصحيح للمشاكل التي تواجههم. من ناحية أخرى فإن الطبيب النفسي الذي يتولى الفحص ربما يواجه مشاكل في ضوء مساعيه الرامية لدفع من يقومون برعاية الشخص المعاق إلى التطرق إلى الجوانب المرضية ذات الصلة بالوسط الذي يعيش فيه. وحين يعمد أولئك الذين يرعون هذا الشخص إلى الإفصاح عن غضبهم وسلوكهم غير المناسب حياله فإنه يتعين علينا حينئذ أن نميز بين الدجاجة والبيضة. ولعل ما يبديه بعض أولئك الأشخاص ذوو الإعاقة من عدوانية وسلوك اجتماعي غير مناسب سوف يؤثر على مقدرة الأشخاص الذين يرعونهم فيما يخص الحفاظ على رباطة الجأش.
التشخيص
تنجم إحدى مصاعب التشخيص أيضاً من المشاكل المفاهيمية conceptual أثناء التعامل مع قضية الإعاقة العقلية. واستناداً إلى معايير التشخيص الواردة في الـ DSM-IV وغيرها فإن الإعاقة العقلية في ذاتها لا تتسبب في الأمراض النفسية حيث يجد أولئك الناس أنفسهم في درجات الذكاء الدنيا وأنه وفق وجهة نظر الـ DSM الحالية فإن المقدرة الذهنية يجب أن لا تتسبب في حدوث أعراض من غير تلك التي تعزى بشكل مباشر إلى الذكاء المنخفض. وإذا ما أبدى الشخص ذو الإعاقة عدوانية أو أعراضاً أخرى فإن علينا أن نفسرها بموجب التشخيص المصاحب لها.
وتذهب وجهة نظر أخرى إلى أن أولئك الأشخاص ذوي الإعاقة ربما لديهم التهاب دماغي دائم يتسبب في إحداث اعاقة عقلية أو عمل عدواني أو أعراض أخرى. وسيتخذ النموذج شكل عمل عدواني مصاحب لمرض الزهايمر. ونحن هنا لا نحدد تشخيصاً منفصلاً إنما نقول إن السلوك العدواني هو جزء من الإعاقة العقلية.
وتدل مثل تلك الإختلافات التشخيصية على جهلنا بأسباب الأمراض وكذلك الوظائف المرضية لتلك الأعراض. وإذا تمكنا بالفعل من فهم الأسس الطبيعية أو العقلية لما يقوم به المريض من عمل عدواني أو أعراض أخرى فإنه سيكون بمقدورنا أن نحل مثل هذه العقدة. إن صحة التصنيفات التي نعتمدها ينبغي أن تستند إلى قضايا عديدة: هل تجتمع تلك الأعراض مع بعضها؟ وهل أن ذلك الإضطراب يشمل عائلات؟ وهل ثمة منهج يمكن التنبؤ به وكذلك استجابة يمكن التنبؤ بها للمعالجة؟ تجدر الإشارة هنا إلى أنه لا يوجد هناك ثمة تشخيص يتصل بالـ DSM يلبي تلك المعايير بخصوص الأشخاص الذين لديهم إعاقة عقلية، وأن قلة قليلة فحسب ممن لديهم إعاقة عقلية تلبي مثل تلك المعايير. مع ذلك لم تحظ بعض الأسئلة العادية بإجابات مقنعة مثل: هل تحدث مثل تلك الأعراض سوية ومن ثم تتواصل على هذا المنوال فيما بعد وفق مسلك طولي longitudinal؟
وأنا أقوم مع فريق بحثي بالتعامل مع هذه القضية حيث يوجد أشخاص راشدون لديهم إعاقة عقلية تم إدخالهم على إثرها إلى مستشفى هلسايد، وهو مؤسسة طبية تتوفر فيها رعاية طبية نفسية مركزة، وحيث أتولى شخصياً الإشراف على ردهة خاصة يرقد فيها 20 شخصاً لديهم إعاقة عقلية مصحوبة باضطرابات نفسية. وهذا المستشفى هو الأكبر من نوعه في الولايات المتحدة على حد معرفتي.
في ضوء عملية التشخيص استخدمنا (المقابلة السريرية المركبة) Structured Clinical Interview ذات الصلة بالـ DSM-IV) (SCID)). تجدر الإشارة إلى أن هذا المنهج مثير للجدل فيما يتعلق بالأشخاص الذين لديهم إعاقات عقلية لأن أمثال هؤلاء الأشخاص لا يقدمون معلومات دقيقة في الغالب، الأمر الذي دفعنا إلى تكرار مقابلة الـ SCID مع أحد الـمقربين فضلاً عن أحد الأشخاص الذين يقومون بالرعاية حيث توصلنا إلى تشخيص الـ DSM-IV بالإجماع. وبهدف التحقق من تلك التشخيصات قمنا بتكرار مقابلات الـ SCID الثلاثة بعد ستة أشهر ومن ثم 12 شهراً بعد أن غادر الشخص المريض الردهة. وبالنسبة للمرضى الذين أبدوا أعراضاً عدوانية استخدمنا تشخيص الاضطراب الانفعالي المتقطع. لقد قمنا بدراسة 82 شخصاً يبلغ متوسط عمرهم 7 إلى 31 سنة 53% منهم من الرجال و 51% لديهم إعاقة معتدلة. وقد جاءت التشخيصات وفق الآتي: اضطرابات مزاجية 32% وانفصام الشخصية 23% والاضطراب الانفعالي المتقطع 21% والتوحد 7% وتشخيصات أخرى 17%. وبعد ستة أشهر من خروج المريض من الردهة ظلت التشخيصات على حالها بالنسبة لـ 41 من 45 شخصاً (91%). من هنا يظهر أنه إذا ما رغبنا في تقييم الأعراض بشكل دقيق لأصبح بمقدورنا أن نحقق تواصل التشخيصات بشكل معقول، الأمر الذي يمثل خطوة ضرورية أولى في تأكيد صحة مثل تلك التشخيصات.
المعالجة بالدواء
يتناول المرضى ممن لديهم إعاقة عقلية، في الغالب، أدوية ذات علاقة بالعلاج النفسي، وبمعدل ربما يتفوق على أية فئة تشخيصية أخرى. وقد توصلت إحدى الاستطلاعات إلى معدل استخدام يصل إلى 57% لدى الجهات الرسمية و41% في البرامج المحلية و22% في المدارس. ويبدي أولئك المرضى مستوى عال من المطاوعة بسبب تلقيهم إشرافا دقيقاً. وهم في الأعم الأغلب يتلقون أدوية مضادة للهواس (الذهان) فيما يتعلق بالأعراض الدوائية.
والسؤال الذي يمكن طرحه هنا هو: هل هناك ثمة دليل على أن مثل تلك الأدوية تؤدي مفعولها؟ لقد قمت بمراجعة ثماني دراسات تتصل بالأدوية التي تعطى لمجرد ارضاء المرضى placebo، ولم أجد أياً منها ينتهج منهجاً مقنعاً. من هنا يبدو جلياً أن الدواء الأكثر شيوعاً لهذه الفئة من الناس يفتقر إلى الدعم التجريبي الذي يدل على فعاليته. ولم تعمد أي من تلك الدرسات إلى عزل المرضى النفسيين بشكل دقيق، وعليه يتعين على المعالج السريري الذي يتعامل مع شخص راشد لديه إعاقة عقلية تتخللها أعراض نفسية أن يبدأ على الأرجح بتجريب العلاجات المضادة للأمراض النفسية.
وإذا أخذنا في الحسبان أن الكثير من الأطباء السريريين قد استخدموا الأدوية المضادة للأمراض النفسية لمعالجة حالة العدوان التي يعاني منها أولئك المرضى لمدة تصل إلى 50 عاماً فإن علينا أن ندرس إمكانية أن يكون مثل هذا العلاج فعالاً لكنه لم يخضع للإختبار بشكل كاف.
بيد أنه لم يتم اختبار أي دواء خاص بالأمراض النفسية بشكل كاف لأية حالة اضطراب لدى الأشخاص الراشدين الذين لديهم أمراض عقلية. وما لم نطلب من مرضانا العودة ومراجعتنا في غضون 10 سنوات لتسنى لنا أن نعرف المزيد، فإنه يتعين علينا أن نعالج أولئك المرضى في الوقت الحاضر وفق أفضل التقديرات التي يمكن أن نتوصل إليها. هنا يبدو من الحكمة اللجوء إلى العلاج باستخدام الأدوية التقليدية مثلما هو الحال مع المرضى من غير المعاقين حين يتوفر لدينا تشخيص معين بشكل معقول لاضطراب يستجيب للدواء مثل الاضطرابات النفسية والمزاجية والقلق.
من جانب آخر تظهر إحدى النتائج المتواترة في مجال الطب النفسي الأحيائي مقداراً منخفضاً HIAA في السائل المخي الشوكي لدى الأشخاص العدوانيين وفق الكثير من التشخيصات. في ضوء ذلك تم إعطاء دواء الـ (فلوكسيتين) Fluoxetine – Prozac)) للأشخاص الراشدين العدوانيين غير المعاقين والذين لديهم اضطراب في شخصيتهم للدلالة على فعالية ذلك الدواء. وتصف عدة تقارير لم يتم التحكم بها نتائج طيبة لدى الأشخاص العدوانيين من ذوي الإعاقة العقلية.
وقد يكون (فالبروت صوديوم) Valproate Sodium) – Depacon) مفيداً بالنسبة للمرضى ذوي الإعاقة العقلية استناداً إلى الأدلة الثابتة. وقد أكدت إحدى الدراسات الحديثة فعالية الفالبروت لدى دراسة عينة من الأطفال والمراهقين غير المعاقين الذين أظهروا سلوكيات عدوانية. كما ثبت أن الـ (فينيتوين) Phenytoin – Dilantin))، وهو أحد الأدوية المعدودة التي تستخدم في الحالات المضادة للإضطرابات العنيفة، التي لم تستخدم على نطاق واسع، قد أثبت فعاليته في حالات العدوان غير المتعمدة لدى عينة من السجناء غير المعاقين.
ويعتبر السلوك الضار عرضاً مالـوفاً لدى المرضى من ذوي الإعاقة العقلية. ويعطي دواء (نالتريكسون) Naltrexone – ReVia)) صورة مختلطة عن الفعالية حسبما أوردته تقارير عديدة. على أنه لا توجد تجارب عشوائية على الدواء. مع ذلك يتم استخدام نالتريكسون بشكل اعتيادي إذا أخذنا في الحسبان شدة تلك الأعراض وما يتمتع به الدواء من أمان نسبي. من ناحية أخرى يتم استخدام Beta-blockers في الغالب لمواجهة الحالة العدوانية لدى المرضى الذين لديهم إعاقة عقلية. وقد تم انجاز 14 دراسة حول اختبار الـ (بروبرانولول) Propranolol على المرضى من ذوي السلوك العدواني. ولم تستخدم سوى دراستين المرضى من ذةوي الإعاقة العقلية. ونجح دواء الـنادولول Nadololm – Corgard)) كثيراً في تقليص السلوك العدواني لدى شريحة من المرضى لديهم الشيزوفرينيا.
ولم يتم اختبار دواء الـبينزوديازيبينز Benzodiazepines الذي يستخدم في الغالب لتهدئة حالة الاهتياج لعلاج حالة السلوك العدواني، على المدى البعيد، لدى المرضى من ذوي الإعاقة. ويخشى البعض احتمال الاهتياج المتزايد الناجم عن ردرد الفعل المتناقضة في ظاهرها رغم عدم إثبات ذلك بشكل واضح.
بات جلياً إذن أننا نحتاج إلى المزيد من البحوث حول تشخيص ومعالجة هذه الشريحة من المرضى الذين لديهم أمراض نفسية والذين تم إهمالهم إلى حد كبير.