بين أزقة الجزائر العاصمة وضوضائها الصاخبة يستوقفك مقهى متواضع تواضع مرتاديه، خصوصيته تكمن في أنه نادٍ أو ملتقى لفئة من ذوي الاحتياجات الخاصة هي فئة الصم والبكم.
الهدوء يخيم في كل ركن به، رغم امتلاء تلك الأركان عن آخرها بالزبائن، ولا يسمع المار أمامها سوى خبطات الملعقة في كوب الشاي أو فنجان القهوة، وطقطقات أحجار لعبة “الدومنو” على الطاولة، هذا هو مقهى الصم والبكم.
على طاولات هذا المقهى المعروف محليا بـ “قهوة لعقاقنة” أي الصم، والذي يقدم خدماته منذ سنة، 1973 يجتمع عشرات من الصم والبكم، يتحاورون، يتسامرون، ويتشاطرون يومياتهم وما يكابدونه من مشاكل وهموم غصت بها حياتهم، كما يجدون فيه متنفساً للترويح عن حياتهم.
وحدها الإشارات هي لغة التواصل بين رواد المقهى من مختلف الشرائح العمرية وأكواب الشاي لا تفارق الطاولات الخشبية.
وبإشارات سريعة، يبدي أحد أقدم رواد المقهى ارتياحاً للقاء أصدقائه في المكان الذي يعتبره جزءاً مهما من حياته اليومية، مشيرا إلى أنه ينسى كل مشاكله هنا ويشارك في نقاشات متواصلة مع باقي مرتادي المقهى.
دليلنا في هذا الموضوع كانت آمال مسيرة هذا المقهى التابع لاتحاد الصم لولاية الجزائر، هذه الشابة نشأت في كنف أسرة جميع أفرادها من الصم فسخرت قدرتها على فهم لغة الإشارة في خدمة هذه الفئة محاولة إسماع صوتهم.
وتترجم آمال لأحد زبائن المقهى “في عقده السادس”، رغبته في توسيع نطاق هذه الفكرة وتخصيص فضاءات أخرى لأقرانه في مختلف ربوع القطر الجزائري، وهو ما ذهب إليه أحد الشباب مناشدا الهيئات الوصية للاهتمام أكثر بانشغالات هذه الفئة.
لغة الإشارة التي يتواصل عن طريقها الصم والبكم والبالغ عددهم في الجزائر زهاء 74 ألف أصم، وهي اللغة التي يعكف اتحاد الصم بالجزائر لتلقينها لمنتسبيه، هي لغة محلية وتختلف من منطقة إلى أخرى، لذا يسعى الاتحاد لخلق قاموس موحد يجمع مستعملي هذه اللغة.
مقهى الصم والبكم في الجزائر
يرتاده العاديون هرباً من الضوضاء
زبائن هذا المقهى غاليتهم من فئة الصم يجلسون في مجموعات أو فرادى، يرتشفون القهوة أو يحتسون مشروبات أخرى أو يلعبون الورق أو الدومينو، أو يتابعون البرامج التلفزيونية المترجمة، فيما يفضل آخرون التواصل فيما بينهم على عتبة المقهى أو على قارعة الطريق المحاذي.
هذا الفضاء ليس حكراً على فئة الصم فقط بل حتى الأشخاص العاديون يرتادونه للهروب من ضوضاء المقاهي الأخرى وهو حال سيد علي، الذي يقصد هذا المكان منذ 15 سنة لدرجة أنه تعلم لغة الإشارة منهم، كما أن هدفه من وراء ارتياد المقهى هو مساعدة هذه الفئة، إذ إن عائداته تصب في خزينة الاتحاد العام للصم بالجزائر العاصمة المخصصة لمساعدة هذه الفئة.
ويقول سيد علي إن التعامل في البداية كان صعباً للغاية، لعدم قدرته على فهم لغة الإشارة وإبلاغ النادل طلبه، إلا أنه بعد فترة وجيزة، تعلم بعض الإشارات التي من خلالها أصبح من السهل التعامل معهم وطلب ما يريد.
المكان يوفر أيضا لعماله مصدرا لكسب قوتهم بعد أن ضاقت بهم السبل لإيجاد باب رزق يسدون به رمق من يعيلون، رغم قلة مردود المكان بشكل عام.
والمقهى يعد نموذجاً لفضاء خاص بفئة ضاقت درعا من العيش في الظل، وعلى أمل أن يحظى الصم بمكانة تليق بهم وبفرص تنتشلهم من مستنقع التهميش وفضاءات أخرى تجمعهم، ويبقى هذا المكان ملاذهم الوحيد ومستودع مكابداتهم.