الكاتب : حازم شحادة
ربما،، ونقول ربما،، لم تتعرض لغة في التاريخ للهجوم ومحاولات الطمس كما تعرضت له بشكل مرعب اللغة العربية حيث كان هم جميع المستعمرين للوطن العربي عبر مئات السنين بعد نهب ثرواته وبث الفرقة والنزاع بين أبنائه أن يحاولوا تشويه هذه اللغة وفرض لغاتهم على المناهج التعليمية وطرق الحوار بين عامة الشعب لكن لغة القرآن الكريم بقيت صامدة في وجه الأعاصير رغم ما أصابها من جروح عميقة وباعتراف الأمم المتحدة نفسها فهي معتمدة هناك كواحدة من أهم اللغات الحية في العالم أجمع.
ومشاكل اللغة العربية لا تقتصر على السامعين فقط بل هي موجودة بشكل لافت عند الأشخاص الصم وقد رأت (المنال) أن تسلط الضوء من خلال هذا التحقيق على المشكلات التي تواجه الأشخاص الصم في تعلم اللغة وما هي أبرز الحلول التي وردت على لسان اختصاصبين في علاج النطق واللغة مع الأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر الأشخاص الصم أنفسهم بهذا الموضوع.
طارق يوسف معلم التربية الإسلامية في مدرسة الأمل للصم يؤكد أن أهمية اللغة العربية بالنسبة لهذه الفئة من المجتمع تكمن في كونهم يعيشون في محيط عربي لا يتقن لغة الإشارة وليس لديه فكرة كافية عن الصم بشكل عام وبالتالي يجب على الأصم أن يصل أولاً إلى المجتمع من خلال تعلمه للغة العربية التي ستمكنه من التواصل وعملية الاندماج بشكل سليم إلى حد كبير.
وأشار إلى أن الصعوبة التي يعانيها الطلبة الصم خلال تعلمهم للغة العربية تكمن في كونها تعتبر اللغة الثانية لهم بعد لغة الإشارة ولغة الإشارة لغة لم تكتمل بعد حيث أن الأصم يقوم بترجمة اللغة الإشارية إلى اللغة العربية بشكل حرفي فيسهم في تكوين جمل عربية غير مترابطة يقدم فيها المفعول على الفاعل والفاعل على الفعل وعلى سبيل المثال قد يترجم الأصم الجملة التالية: (ذهبت والدتي إلى السوق لشراء التفاح) إلى (والدتي السوق التفاح ذهبت).
وبرأي الأستاذ طارق يكمن الحل في (تقعيد) لغة الإشارة أي إنشاء قواعد خاصة بها تشير إلى واو الجماعة وتاء الفاعل وهاء الضمير والتي هي ذات دلالة في الفصحى ولكن ليس لها مقابل في لغة الإشارة وإلى ما هنالك من القواعد التي ستسهم في تمكين الطلبة الصم من تعلم اللغة العربية بشكل سليم، خاصة إن تمت مواكبتهم في عملية التعليم منذ مرحلة الحضانة الأمر الذي سينعكس إيجاباً عليهم ويمكنهم مع التقدم في العمر من امتلاك اللغة بشكل سليم والقدرة على التعبير باستخدامها.
وعن دور الأهل والأصدقاء يشير معلم التربية الإسلامية إلى أهمية أن يخاطب هؤلاء الأشخاص الصم كما يخاطبون السامعين دون رفع الأصوات ودون المبالغة في طريقة الكلام أو تقطيعه وهذا يعزز ثقة الأصم بنفسه ويساعده بشكل أكبر على التواصل.
إن ترجمة العبارات الرئيسية في الأماكن العامة (المطارات، الحدائق، أماكن التسوق العامة، الدوائر الحكومية.. إلخ) إلى لغة الإشارة يساهم إلى حد كبير في نشر الثقافة عن هذه الفئة من المجتمع، كما يجب على الإعلام أن يقوم بدوره في هذا المجال من خلال التوعية بقضايا الصم، كما يقع على عاتق المدارس والمراكز التي تعنى بالطلبة الصم تنمية مهارات اللغة العربية وإضافة المواد التي تثري المنهاج المدرسي بالمفردات وطريقة تركيب الجملة.
ومتى كانت البداية صحيحة والتأسيس متين في هذا المجال من مرحلة الروضة وصولاً إلى المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية كانت النتيجة بالنسبة لإتقان الصم للغة العربية مرضية وتسهم إلى حد كبير في القدرة التعبيرية وتجاوز الصعوبات دون أن ننسى توفر المعينات السمعية المناسبة والضرورية جداً لإتمام هذه العملية التعليمية النبيلة.
الدكتور عبد الرحمن نقاوة اختصاصي النطق واللغة في مركز الطفل للتعلم وتعزيز المهارات الطبي في دبي أكد أن أبرز مشكلة تواجه الأشخاص الصم فيما يتعلق باللغة العربية تتمثل في الفرق الكبير بين اللهجة المحكية (العامية) واللغة الفصحى والفرق الكبير بينهما وبين لغة الإشارة الأمر الذي يجعل من قدرة الأصم على إتقان اللغة العربية تواجه صعوبات جمة.
ويضيف نقاوة: ما يزيد الطين بلة هو التأخر في تعليم الصم فخلاف ما يعتقده البعض، الأشخاص الصم قادرون على تعلم اللغة العربية وإتقان قواعدها شريطة أن يكون البدء بتعليمهم منذ الصغر وبالتدرج من مرحلة الروضة إلى الابتدائية إلى الثانوية إلى الجامعة إن أمكن.
ومن الأمور المساعدة في تعليم الأشخاص الصم للغة العربية اعتماد وسائل الإعلام على كتابة النصوص المنطوقة في المسلسلات والأفلام ونشرات الأخبار وغيرها من البرامج ضمن شريط أسفل الشاشة مما يعزز قدرة الأصم القرائية ويساعده على اكتساب كلمات ومعان جديدة يضمها إلى مخزونه اللغوي ويثري بها معرفته باللغة العربية.
ولا ننسى الدور الكبير للمدرسة في تعريض الأشخاص الصم للغة العربية الفصحى من خلال حديث المعلمين والطلبة مع شرح معاني الكلمات التي لا يفهمها الطلاب وأيضاً للأهل دور مهم للغاية في تعليم أبنائهم الصم اللغة العربية ومخاطبتهم بها منذ الصغر ليعتادوا عليها وعلى فهم معاني الكلمات التي لم تمر عليهم من قبل.
اختصاصي علاج النطق واللغة في مدرسة الأمل للصم إلياس طباع الخبير في التعامل مع الأشخاص من ذوي الصمم منذ ثلاثين عاماً أكد أن اللغة هي وسيلة تواصل تقوم على ارتباط الرمز مع المعنى واللغة العربية مخزن التراث ولغة القرآن الكريم وفيها تتجلى عبقرية الأمة وهي وسيلة حقيقية لتنمية الفكر إن لم نقل هي الفكر نفسه وهي ذات أهمية وبعد استراتيجي بالنسبة للأشخاص الصم لأنها تصلهم بمجتمعهم وتساعد على دمجهم فيه ومن خلالها يستطيع الأصم أن يعبر عن أفكاره ومشاعره ومتطلباته.
تتلخص أسباب ضعف الأشخاص الصم باللغة العربية بلجوء الكثير من المعلمين والمعلمات إلى استخدام لغة الإشارة حيناً واللغة اللفظية حيناً آخر في توصيل المعلومة وحصر التعليم على القراءة والكتابة مع إهمال الحوار والتعبير وعدم وجود أساليب مشوقة لتدريس الصرف والنحو وقواعد اللغة وقلة الاهتمام بالمكتبات والمطالعة الحرة من قبل الصم والمعلمين في أغلب الأحيان.
ويضيف الأستاذ إلياس: من هذه الأسباب أيضاً تعلم الطالب الأصم للغة بالفصحى في المدرسة وبالعامية في المنزل الأمر الذي يسبب ارتباكاً بسبب الفرق الكبير حيث أن اللغة العربية الفصحى نظام لغوي يختلف عن العامية رغم الأصل الواحد، بالإضافة إلى ضعف الاهتمام بتنمية مهارات الاستماع والتحدث والقراءة والكتابة بالشكل المنظم مع وجود مناهج مكثفة وغير مكيفة لتلائم الطلبة الصم.
هنا يذكر الأستاذ إلياس مجموعة من الخطوات الممكن اتباعها في سبيل إيجاد حلول لتلك المشكلات ومن أهمها إعطاء عناية فائقة باللغة العربية في المناهج والكتب باعتبار اللغة العربية هي الوعاء الذي يستوعب جميع العلوم الأخرى والتأكيد على التعليم بالطريقة الكلية بما يتناسب مع الموقف التعليمي والفروق الفردية مع الدعوة لتطوير وتكييف مناهج اللغة العربية بما يتفق مع حاجات الطفل الأصم.
أيضاً لا بد من العناية بالمكتبات المدرسية وتطويرها وتطوير حصص القراءة الإبداعية والعناية بالتعليم الإلكتروني وتدريس القواعد من صرف ونحو بأسلوب عصري مشوق وتحديث طرق التعليم بإدخال التكنولوجيا المساندة مع تبسيط المعارف اللغوية وتسهيل الصرف والنحو وزيادة حجم الأعمال الدرامية ودعم برامج التلفزيون العربية من خلال استحداث شخصيات محببة وإنتاج ألعاب فيديو عربية تقرب اللغة العربية من الأشخاص الصم.
يوضح الأستاذ إلياس أن زيادة حصص اللغة العربية الخاصة بالإثراء اللغوي اللفظي والتركيز على الأسلوب الحواري وبناء الهياكل الحوارية السليمة من شأنه أن يساعد الطلبة الصم في مجال اللغة العربية مع التركيز على اللغة الكلية الغنية بالنغمات والابتعاد عن الطريقة الجزئية الصوتية والاهتمام بتصحيح النطق والكلام وفق الأسلوب السمعي الشفوي مع تقديم لغة الإشارة جنباً إلى جنب مع لغة الحديث لتكون رديفاً لها وليس بديلاً عنها ولا سيما عند استخدام الألفاظ والتراكيب اللغوية الجديدة.
إن تفعيل اللغة العربية يساهم بشكل كبير في حل العديد من المشكلات النفسية والاجتماعية للأشخاص الصم ـ هذا ما تؤكده معلمة اللغة العربية في مدرسة الأمل للصم آمنة محمد يوسف ـ مشيرة إلى أن اللغة العربية هي عنوان الهوية العربية ورمز الكيان القومي وحافظة التراث.
بدوره اعتبر اختصاصي علاج النطق واللغة ناظم فوزي أن المشكلة الرئيسية تكمن في اعتماد أغلب الوسائل المتبعة مع الصم بخصوص اللغة العربية تعليم النطق وليس اللغة مما يؤدي لديهم إلى ضعف في مكونات اللغة وبأحسن الأحوال يتقنون كلمات بمفردها وليس لغة كاملة.
إن مختلف العلوم التي سيدرسها الأصم بحاجة للغة ولنأخذ على سبيل المثال (الفيزياء) فعندما تقول للأصم (الماء يتجمد بالبرودة) فهو بحاجة لفهم معنى الكلمات المترابطة ليستطيع إدراك المعنى الكلي للجملة ومن هذا المنطلق لا بد من تعليم الصم اللغة بجميع مكوناتها (المحتوى، الدلالة، التراكيب اللغوية، القواعد، إلخ..) طبعاً مع التركيز على أن يتم التعليم منذ الصغر لتكون الإستفادة بحدها الأعظمي قدر الإمكان.
ويختم فوزي بالقول: إن تعليم الأصم مدلول الكلمة ومعناها هو ما يسهم في ترسيخ اللغة بذهنه وليس تعليمه (صوتها) فقط لذا وجب الحرص على هذه الناحية في عملية التعليم وإكساب الأصم الفائدة المتوخاة من عملية التعليم ليصبح قادراً على استخدام اللغة كتابة وقراءة بشكل جيد يلبي تطلعات الأصم بالنسبة للعلم والمعرفة.
طالب الشهادة الثانوية (الفرع الأدبي) في مدرسة الأمل للصم مبتسم فيصل سيف أثار أمراً غاية في الأهمية بالنسبة لتعلم الأشخاص الصم للغة العربية ألا وهو (قلة المفردات) فما يمتلكه الشخص الأصم بشكل عام من مفردات اللغة العربية الواضحة المعاني بالنسبة له يعتبر قليلاً ناهيك عن كون بعض الكلمات تحمل أكثر من معنى وهنا يجد الأصم نفسه واقعاً في الحيرة ويضطرب فهم الكلمة أو الجملة كلها.
لهذا السبب يمكن للشخص الأصم أن يفهم معنى الجملة العربية المكتوبة ككل ولكن فهم معاني الكلمات حرفياً من الصعوبة بمكان فالفرق كبير بين اللغة العربية ولغة الأم لديهم وهي لغة الإشارة التي تغيب عنها الأساليب الخبرية والإنشائية وحروف الجر والمهارات اللغوية.
يتحدث مبتسم باسم زملائه ويؤكد أن فهم الأصم للغة الإشارة يكون سهلاً وواضحاً كونها تعتمد الاختصار والبساطة أما في اللغة العربية فهنالك العديد من المفردات غير المعروفة والتي لم يسمع بها من قبل وعند قراءته لهذه المفردات يحتاج إلى توضيح المعنى، ليس هذا وحسب، وبسبب قلة استخدام هذه المفردات قد ينساها بعد مرور وقت معين.
من هذا المنطلق يطالب الطلبة الصم بامتحانات وزارية مبسطة تختلف عن امتحانات الطلبة السامعين بالإضافة إلى تخفيف منهاج اللغة العربية لأنه في وضعه الحالي صعب عليهم مع تقليل المادة الامتحانية والانتباه إلى أن الشخص الأصم يواجه صعوبة كبيرة في موضوع (الإعراب) لأنه يحتاج إلى إدراك كبير لحركات التشكيل من رفع وجر ونصب (فتحة، ضمة، كسرة) وهذا أمر شديد الصعوبة بالنسبة للأصم.
ويطالب الأشخاص الصم ـ كما يوضح مبتسم ـ بتغيير نمط الأسئلة الإمتحانية من أسئلة الشرح والتعليل والتفسير إلى الأسئلة الاختيارية كما أن مواضيع التعبير تشكل مشكلة كبيرة بالنسبة لهم لأنها تحتاج إلى كتابة جمل وعبارات مترابطة في الوقت الذي لا يستطيع الأصم ربط جمل اللغة العربية بالشكل الصحيح كلياً.
اللغة واحدة من أهم عناصر هوية الإنسان وعلينا كعرب أن نحافظ عليها حفاظاً على تراثنا وعراقتنا ولأن الأشخاص الصم جزء لا يتجزأ من مجتمعنا وجبت العناية بتعليمهم اللغة وقواعدها بشكل ممنهج مدروس يؤدي إلى اكتسابهم اللغة وإتقانهم لها شأنهم شأن أقرانهم السامعين لتعم الفائدة عليهم وعلى مجتمعهم ككل.
المصدر : المنال رؤية شاملة لمجتمع واع