الكاتب : محمد مصطفى مسلمانى
مع تقدم الزمن عملت الثورات الاجتماعية على الاهتمام بالإنسان الفرد والاهتمام بحقوقه وتخليصه من الظلم، ما ولد عن ذلك الاهتمام بالضعفاء والمعاقين والبحث عن وسائل متنوعة لاحتوائهم ورعايتهم، وكان التقدم في تعليم الطفل المعوق حسياً بداية الطريق لمنطق يدعو إلى امكانية الاستفادة من طاقات وقدرات المعوقين وتوصيل المعلومات لهم بطرق تناسب درجة إعاقتهم، فكانت طريقة برايل لتعليم المكفوفين وطريقة قراءة الشفاه لتعليم الصم.
وقد كانت فرنسا السباقة إلى الاهتمام بتربية الأطفال المعاقين، حيث وجهت العناية أولاً إلى ذوي الإعاقات الحسية؛ للمكفوفين والصم، ثم إلى المعاقين عقلياً، وكبر هذا التوجه أكثر بعد صدور كتاب «متوحش أفيرون» للكاتب جان ماري إيسار والذي يشرح فيه محاولاته لتعليم الطفل المتوحش الذي عثر عليه صياد فرنسي في ناحية أفيرون قرب باريس عام 1798، ورغم أن ايسار الذي حاول لمدة خمس سنوات متتالية تعليم وتدريب هذا الطفل الذي كان يشبه الحيوان تماماً في كل تصرفاته وسلوكه وحركاته مستعملاً معه طريقة «بربر» في تدريب الصم والمعتمدة على تنشيط الذكاء أولاً للارتقاء من المحسوسات إلى المعنويات ومن ثم التدريب على الحياة الاجتماعية، رغم أنه لم يفلح معه ـ إلا أن محاولاته هذه أثارت اهتمام العلماء ببعض مشاكل المعوقين، وفتحت الآفاق واسعة لدراسة مختلف حالات الإعاقة والتعوق، فأحدث على أساس ذلك «معهد المعوقين» في فرنسا عام 1910 ثم تلاه أولى معاهد التأهيل للمعاقين في أمريكا عام 1920، ثم توالت المعاهد بعد ذلك في مختلف دول العالم، ولاسيما بعد أن أفرزت الحرب العالمية الأولى والثانية العديد من المعوقين جسدياً، وما صاحب ذلك من تقدم في الطب وتطور الأساليب والنظريات التربوية والنفسية والاجتماعية… إلخ، فبدأت المجتمعات كافة تنظر إلى المعوق نظرة تفاؤلية وإنسانية وراحت مراكز التأهيل والتدريب لرعاية المعاقين في مختلف أنحاء العالم تنشط في هذا المجال مستعينة بآخر ما توصل إليه العلم والطب الحديث في مجال رعاية المعاقين، وذلك من أجل إعادة الحياة الكريمة لهذه الشرائح، وجعلهم يندمجون في مجتمعاتهم ويعيشون الحياة المناسبة ويشعرون بالكرامة والسعادة.
حتى منتصف القرن الماضي كانت تطلق على هذه الشريحة تسميات ما أنزل الله بها من سلطان، فمنهم من نعتهم بـ «المقعدين»، ومنهم من وصفهم بذوي «العاهات» ومنهم من أطلق عليهم تسمية «العاجزين» وشيئاً فشيئاً تغيرت وتطورت هذه النظرة إلى المعاقين وأصبح المجتمع ينظر إليهم على أنهم ليسوا عاجزين، بل المجتمع هو الذي عجز عن استعيابهم أو تقبلهم أو الاستفادة مما قد يكون لديهم من قدرات ومواهب وامكانات يمكن تنميتها وتدريبها والاستفادة منها، ما يؤدي بالتالي إلى دمج المعاقين في المجتمع بعدئذ، وجعلهم فئات ايجابية تستفيد من برامج التنمية، وتستطيع التكيف مع المجتمع رغم ما بهم من إعاقة، وبمساعدة فاعلة من غيرهم من غير المعاقين، ومع صدور إعلان حقوق المعاقين عقلياً عام 1971 وإعلان حقوق الأشخاص المعاقين عام 1975 وإعلان حقوق الطفل التي تبنتها مواثيق الأمم المتحدة، أصبح لهذه الشريحة من يدافع عنها على المستوى العالمي وراحت المراجع العلميةو الهيئات المتخصصة تسميهم «المعوقون» أو ذوي الاحتياجات الخاصة، وقد حدد ميثاق الثمانينات تعريف الإعاقة كما يلي: «الإعاقة حالة تحد من مقدرة الفرد على القيام بوظيفة واحدة أو أكثر من الوظائف التي تعتبر العناصر الأساسية لحياتنا اليومية، وبينها العناية بالذات، أو ممارسة العلاقات الاجتماعية، أو النشاطات الاقتصادية، وذلك ضمن الحدود التي تعتبر طبيعية».
وكان لإعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1981 عاماً دولياً للمعوقين، ومن ثم اعتبار العقد من 1983 ـ 1992 عقداً دولياً لهم، واختيار تاريخ 3 ديسمبر من كل عام يوماً عالمياً للمعاقين كان لهذا الأثر الكبير في اهتمام المجتمع العربي والدولي بجميع هيئاته ومؤسساته بموضوع الإعاقة والمعوقين، حيث تم التأكيد على حق هذه الفئة في التمتع بفرص متكافئة مع سائر المواطنين في مختلف المجتمعات.
في الحقيقة تتفاوت تصريحات منظمات الأمم المتحدة في تقديراتها لحجم الإعاقة ونسبة انتشارها في المجتمعات كافة، فبينما تقدر منظمة الأمم المتحدة للأمومة والطفولة (اليونيسيف) نسبة ٪10 كمعدل لحدوث الإعاقة بين الأطفال، تقول منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم أن نسبة الإعاقة في العالم ما بين 10 ـ ٪15 من المعاقين الموجودين في العالم لكل مستويات الأعمار، ومهما يكن من أمر تقول الإحصائية الأخيرة الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة أن عدد المعاقين في العالم جسدياً وعقلياً وحسياً يتجاوز الـ 600 مليون شخص في أرجاء المعمورة كافة، وإذا ما أضفنا إلى هذه النسبة أنواع الإعاقة الناجمة عن حوادث الطرق والسيارات وإصابات العمل وضحايا الحروب والكوارث وما إلى هنالك من الويلات التي تحصل كل يوم لوجدنا أن العدد في ازدياد مستمر، وفي حين تعزو منظمة الصحة العالمية أسباب الإعاقة في العالم إلى المرض والجهل بشكل أساسي، تقول منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة على لسان أحد مسؤوليها المعنيين بقضايا الإعاقة إن عوامل الجوع وسوء التغذية والفقر من أهم الأسباب التي تؤدي إلى الإعاقة، وعموماً تجمع الهيئات والمنظمات المعنية كافة على أن أكثر من ٪80 من المعوقين يعيشون في بلدان العالم الثالث ولاسيما في المناطق الريفية حيث قلة قليلة من المعاقين في هذه الدول تتلقى الرعاية الصحية الجيدة والخدمات التأهيلية الضرورية.
ورغم عدم توفر المعلومات الدقيقة حول عدد المعاقين في الوطن العربي، بسبب ما تم توثيقه في هذا الشأن والطريقة التي جمع بها والتي تفاوتت كثيراً فيما بينها، ما جعل من الصعوبة بمكان تحديد النسبة بشكل دقيق نظراً لاختلاف أسباب وعوامل الإعاقة وتبعاً لمستوى تنمية البلد والمناطق المختلفة في البلد الواحد إلا أن عدد الأطفال المعاقين في الوطن العربي بشكل تقديري ـ كما جاء في تقرير منظمة الأمم المتحدة ـ يتراوح ما بين 10 ـ 12 مليوناً ولا يستفيد من الخدمات التي تقدمها قلة من المؤسسات الخاصة بالمعاقين سوى ٪5 فقط من الأطفال العرب المعاقين جسدياً وعقلياً، هذا إضافة إلى الغياب الكامل للمؤسسات التي تتعامل مع المعاقين في بعض الدول العربية، حيث أن ٪80 من مختلف الخدمات التي تقدم لمثل هذه الشريحة تقوم بها مؤسسات خيرية وغير حكومية، ما يؤكد للأسف أيضاً قتامة صورة المعاقين في الوطن العربي والواقع المؤلم الذي تعيشه هذه الفئات ولا سيما الأطفال منهم الأمر الذي يتطلب بالتالي البحث بشكل جدي في أسباب الإعاقة وطرق الوقاية منها.
كما أسلفنا تتعدد وتتنوع أسباب الإعاقة ا لتي تفرز في النهاية ثلاث فئات من المعاقين، الأولى شريحة المعاقين جسدياً، وهم من يكون لديهم عجز في الجهاز الحركي والبدني بصفة عامة، والثانية المعاقون حسياً وهم من يكون لديهم عجز في الجهاز الحسي كالمكفوفين والصم، والفئة الثالثة المعاقون ذهنياً، ورغم اختلاف الأسباب والعوامل المؤدية لذلك وتضارب الآراء حولها، إلا أن مسألة عدم الاهتمام بالجانب الصحي والطبي بشكل عام تعتبر من أهم المسائل التي تؤدي إلى الإعاقة بشكل ملحوظ، والتي يمكن للفرد والأسرة والمجتمع أن يتجنبوا الوقوع في براثنها بقليل من الوعي والإدراك وقليل من الرعاية والاهتمام، ولنأخذ مثالاً على ذلك الإعاقات التي تحدث عند الأطفال والتي تقسم إلى ثلاث مراحل رئيسة:
وتجسد هذه المرحلة عوامل الأمراض الوراثية التي قد تكون موجودة لدى أي من الزوجين، والتي تتمثل في الصفة الوراثية للتركيب الصبغي للإنسان، حيث تكون هذه الصفة الوراثية المحمولة في الصبغيات ظاهرة على الشخص الذي يحملها، كأن يكون مصاباً بالعرض نفسه ككف البصر والصمم أو الشلل، أو أن تكون الصفة الوراثية المحمولة كامنة وغير ظاهرة على الشخص الذي يحملها، وفي مثل هذه الحالة يكون الشخص غير معاق ظاهرياً، ولكنه يمكن أن ينقل المرض إلى أطفاله، وهنا لابد من التوعية بالأمراض التي تنتقل بالوراثة كالصمم وكف البصر وبعض الأمراض الدموية، كما ينبغي الحرص على إجراء الفحص الطبي الكامل للراغبين في الزواج، وتكثر مشاهدة حالات الإعاقة في زواج الأقارب في العائلة الواحدة، ومن العوامل الأخرى التي قد تسبب الإعاقات في هذه المرحلة تناول الحامل لبعض الأدوية أو المواد الكيماوية الضارة بالجنين ولاسيما في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، أو في حالات إصابات ببعض الأمراض، هذا مع التأكيد على أن العمر الأمثل للحمل هو بين 18 ـ 35 سنة.
وتمتد هذه الفترة من الأشخر الأخيرة من الحمل وحتى الشهر الأول من عمر الوليد، وتنجم عوامل الخطر في هذه المرحلة عن حالات الولادة قبل تمام مدة الحمل، كحالات الزرقة ونقص الأوكسجين والولادات المعسرة وحالات اليرقان (الاصفرار) أو انحلال الدم… الخ، ما يستدعي ضرورة توفير ولادة سليمة مراقبة صحياً الأمر الذي يفيد كثيراً في تجنب حدوث الإعاقات المختلفة التي قد تحدث في هذه الفترة.
حيث يمكن في هذه المرحلة تجنب العديد من حالات الإعاقة التي قد تحدث للطفل، من خلال التقيد التام بمواعيد التلقيح أو التطعيم الشامل الذي تقدمه عادة المراكز الصحية ضد العديد من أمراض الأطفال كالحصبة والدفتيريا وشلل الأطفال والتهاب السحايا.. الخ، والأمراض التي قد تنجم عن سوء التغذية… الخ، كما يقوم الإرضاع الطبيعي من ثدي الأم بدور كبير ومهم في تحسين صحة الطفل وتقوية مناعته ونموه العاطفي والنفسي، الأمر الذي تشجعه وتحث عليه برامج رعاية الطفولة التي تشمل كذلك الخدمات العلاجية والوقائية… وغير ذلك، وتجنباً لحدوث مثل هذه المشاكل المرضية المتنوعة عند البشر تقوم منظمتا الصحة العالمية واليونيسيف باستمرار باعتماد العديد من ا لبرامج الوقائية سنوياً والتي يجري تطبيقها بشكل عام في جميع بلدان العالم.
برنامج التمنيع أو التحصين الشامل
برنامج الوقاية من الحوادث
برنامج الجذام
برنامج التغذية
برنامج صحة العمال
وبرنامج الصمم وكف البصر
… إلخ.
في الختام لابد من القول إن التعامل مع عالم الأشخاص المعاقين يجسد إنسانية الإنسان في أروع صورها ومعانيها، ويؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن الرحمة والعطف والحنان دماء تسري في عروق من يتعامل مع هذه الشريحة لأن التعامل معهم يحتاج فعلاً إلى حنان الأم وصبر أيوب وقلب ملاك.
المصدر : المنال رؤية شاملة لمجتمع واع