الكاتب : د. محمود جمال
تعتبر السينما من أهم الفنون ووسائل الاتصال الحديثة وخاصة في قضايا التغيير الاجتماعي والثقافي مثل القيم والمعتقدات والاتجاهات والمواقف والآراء وما شابه ذلك.
تأتي هذه الأهمية للسينما من خلال قدرتها التأثيرية والإقناعية الكبيرة نظرا لما تتمتع به هذه الوسيلة الاتصالية من خصائص وسمات تميزها عن باقي الفنون ووسائل التواصل الأخرى مثل الرسم والنحت والصحافة والإذاعة وغيرها. فالسينما تقدم الصوت والصورة والحركة والتي تخاطب أكثر من حاسة لدي المتلقي كما أنها تقدم درجة عالية من الوضوح والتفاصيل بسبب كبر شاشتها. كذلك فهي أكثر شدا وجذبا للجمهور بحكم استخدامها للمؤثرات الصوتية واستيعابها لمختلف الفنون من موسيقى ورسم ونحت الخ. وفوق كل ذلك فهي تملك قوة سيطرة وتحكم في المشاهد الذي يجلس ساكنا علي كرسيه المريح وفي أجواء الصمت والظلام وقليل من التشويش والمقاطعة،. كذلك تمتاز السينما بقدرتها علي معالجة أكثر من قضية أو موضوع في الفيلم الواحد. من هنا جاءت أهمية السينما كأداة فعالة في عملية التوعية والتثقيف والتنشئة في مختلف مناحي الحياة بما في ذلك قضايا الإعاقة.
طبعا هذه الإشكالية مرتبطة بقضية المعاقين التي يرى أغلب الباحثين أنها تعاني من التهميش وعدم الاهتمام ومحدودية الوعي الاجتماعي بها وبتداعياتها الخطيرة وتزايد حجمها بسبب الحروب والفتن وانتشار الأمراض والأوبئة وسوء التغذية.
لوحظ من خلال قراءة العديد من تعريفات السينما أنها ارتبطت بالجانب المادي أو الشكلي لهذه الوسيلة. فبالعودة إلي قاموس ويبستر ارتبط مفهوم السينما بـ «صناعة السينما»، «قاعة عرض الصور المتحركة»، «فن أو تقنية عمل أو صناعة الصور المتحركة»، «خدمات تشغيل وإدارة قاعات أو مسارح السينما».
أما معجم مصطلحات الدراسات الإنسانية والفنون الجميلة فقد ربط تعريف السينما بالمسميات التالية: «القاعة المخصصة لعرض الأفلام السينمائية»، «عملية إنتاج وتوزيع الأفلام بشكل عام»، «الصور المتحركة التي يعرضها جهاز العرض علي الشاشة المخصصة لذلك».
الفلم التسجيلي: «هو تسجيل وثائقي لموضوع معين».
الأفلام التسجيلية: «هي تلك الأفلام التي تصور عناصر الطبيعة سواء كان ما تصوره مواد خاصة بالجرائد أو المجلات السينمائية أو أفلا م المعرفة ذات الشكل الدرامي أو التي تعتمد علي الاستطراد أو الأفلام التعليمية أو الأفلام العلمية».
يمكن النظر إلي التعريفات المذكورة أعلاه بأنها غير كافية لإيضاح الصورة الكاملة للسينما. فالسينما أولا وقبل كل شيء هي رسالة وفكرة ومضمون. وهي أيضا تعبير عن قناعات ومعتقدات وقيم. ومن هنا يمكن القول إن السينما إلى جانب كونها مؤسسات ومنظمات مالية وإدارية وتشمل العديد من المباني والتجهيزات والمعدات التقنية فهي أيضا مؤسسات إنسانية ووسائل اتصالية ذات رسالة اجتماعية هدفها التأثير على الناس وتنشئتهم.
وفي هذا الاتجاه هناك قناعات راسخة لدى العديد من الباحثين في ميدان الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية أن السينما ليست مجرد سجل واقعي وحي لأهم التطورات والتحولات الحادثة في مجتمع معين ولكنها مشاركة بفعالية في صناعتها.
ينظر إلى الإعاقة كونها «حالة تحد من قدرة الفرد على القيام بوظيفة واحدة أو أكثر من الوظائف التي تعتبر أساسية في الحياة اليومية كالعناية بالذات أو ممارسة العلاقة الاجتماعية والنشاطات الاقتصادية وذلك ضمن الحدود الطبيعية».
أما المعاق فيعرف «بأنه الشخص الذي يختلف عن المستوى الشائع في المجتمع في صفة أو قدرة شخصية سواء كانت ظاهرة كالشلل وبتر الأطراف وكف البصر أو غير ظاهرة مثل الإعاقة العقلية والصمم والإعاقة السلوكية والعاطفية بحيث يستوجب تعديلا في المتطلبات التعليمية والتربوية والحياتية بشكل يتفق مع قدرات الشخص المعاق مهما كانت محدودة ليكون بالامكان تنمية تلك القدرات إلى أقصى حد ممكن».
وهناك مسميات أخرى ذات علاقة بما سبق تتميز بمستوى أداء وظيفي عقلي عام دون المتوسط.
و«التوحد» الذي هو عبارة عن «اضطراب عصب حيوي يؤخر في المهارات الجسمية والاجتماعية واللغوية للأطفال الانطوائيون بشكل مفرط».
ومما يجدر ذكره هنا إن الإعاقات المذكورة أعلاه ليست بعيدة عن التأثير المتبادل علي بعضها البعض. فكثيرة هي الحالات التي يكون فيها المعاق أصما وغير قادر على الكلام وقد لا يسلمه هذا من تعرضه للأزمات النفسية والاضطرابات العقلية والادراكية. كذلك العديد من ذوي الإعاقات الحركية يكابدون من الاضطرابات النفسية بسبب قسوة الحياة والظروف التي يمرون فيها وكذلك المعاملة السيئة التي يتعرضون لها. ولا شك أن وجود مثل هذه الظواهر المعقدة يتطلب من القائمين في التعامل معها خبرة وصبر وجهد مضاعف يفوق بكثير ما يمكن بذله في الحالات الأقل تعقيداً.
الإعاقات بكل إشكالها وأنواعها ومظاهرها، خاصة في الظروف الراهنة، ذات طبيعة ذاتية وخاصة يتحمل أعباؤها في الأساس المعاق وإلى حد ما الأهل المقربون جدا منه ونخص بالذكر الام والأب وبعض الأخوة والأخوات أحيانا.
الدور الاجتماعي العام لا زال ضعيفا ومحدودا جدا. وإذا ما عرفنا أن أكثر من ثمانين بالمائة من المعاقين يتكدسون في البلدان النامية الفقيرة فإن هذا يؤكد الصعوبات التي تواجه هذه البلدان في القيام بعمل مجتمعي محسوس لصالح هذه الفئة خاصة وقد عجزت عن تقديم الكثير من الأساسيات للأشخاص غير المعاقين فيها.
من جانب آخر تعتبر الإعاقة ظاهرة معقدة في طبيعة مكوناتها حيث تتداخل العوامل الاقتصادية مع العوامل الصحية والوراثية والصناعية والعسكرية والطبيعية والغذائية والتعليمية والأمنية والسياسية والثقافية و غيرها لتصنع الإعاقة وتعمل على توالدها وتكاثرها خاصة في بلدان العالم الثالث التي تعاني في كل المجالات المشار لها سابقا. ونتيجة لغياب الفعل الايجابي المؤثر في التعامل مع احتياجات وتطلعات المعاقين فقد برزت العديد من قضايا المعاقين التي يمكن تلخيص أهمها علي النحو الاتي:
عدم قدرة المعاق علي العيش في ظروف حياة طبيعية أسوة بأقرانه من غير المعاقين في المجتمع حيث يحرم من تكوين علاقات اجتماعية طبيعية مع الآخرين ومن التعليم والوظيفة والرعاية الصحية المناسبة الخ.. خاصة إذا كان ينتمي إلى بيئة اجتماعية فقيرة وحيث يصبح التسول وسيلة العيش الأساسية.
وفي حالة تغلبه نسبياً على بعض أو كل الظروف السابقة (يكون هذا الاحتمال أكثر حدوثاً بين ذوي الإعاقات الحركية والسمعية والبصرية البسيطة والمتوسطة) يظل المعاق عرضة للتمييز والإهمال والتهميش.
أما الأشخاص من ذوي الإعاقات النفسية والعقلية فدرجة معاناتهم أكبر، مقارنة بالحالات السابقة حيث يتعرضون فوق ذلك إلى الضرب والاعتداء الجنسي والاستغلال وكل صنوف الحرمان والمعاناة.
إن تطبيق ما جاء في القوانين والتشريعات من حقوق وامتيازات للمعاقين ما زال محدودا في الواقع، كما أن توفر العديد من الخدمات والتجهيزات الهندسية والهيئات المؤسسية لازالت أقل بكثير مما يجب.
هناك وعي وإحساس اجتماعي محدود بأهمية وحجم مشكلة المعاقين وخطورتها، كما أن الفهم الصحيح لمشكلة الإعاقة لا زال غامضا ومشوها. ومن الأمثال الشائعة في الوطن العربي «كل ذي عاهة جبار أو شيطان»، «لا يقيد الله إلا وحوشاً».
الإجابة المباشرة تقول إن تعامل السينما مع هذه القضايا محدود، عفوي وغير واضح من حيث الرسالة والأهداف باستثناء ما يقدم في شكل أفلام تسجيلية أو وثائقية أو روائية قصيرة تنتجها بعض الهيئات والمنظمات الوطنية والإقليمية والدولية المعنية بشؤون الأشخاص المعاقين.
يدعم هذه الإجابة أن البحث في أرشيف المكتبة الجامعية وشبكة الانترنت لم يفض إلي الحصول على أية أبحاث أو دراسات سابقة حول السينما والإعاقة. في ضوء هذا الوضع فقد اعتمدت الاستنتاجات الخاصة بهذه الدراسة على:
اتجهت أغلب الأفلام المستعرضة إلى تقديم صورة مشرقة وايجابية عن المعاقين سواء كان ذلك في شكل نشاطات وأعمال إبداعية متميزة أو في تقديم نماذج ايثارية ومشاعر إنسانية فياضة ونبيلة. كذلك أبرزت هذه الأفلام استعداد هذه الفئة للعمل والكفاح وخدمة الآخرين مع تمتعها بالجلد والصبر والقناعة (من نماذج هذه الأفلام: العتمة المضيئة (سوري)، رحلة في الماضي (مغربي)، العيش بكرامة (فلسطيني)، أحمد سليمان (إماراتي)).
مما يجدر ذكره هنا أن مثل هذه الرسائل الاتصالية تحاول معالجة تلك الصورة النمطية السلبية التي تصور المعاق وتصفه بالكسل والخمول وبكونه عبئاً وعالة على الآخرين.
عمل نموذج آخر من الأفلام على تقديم صورة درامية قوية عن معاناة المعاقين وآلامهم والتي يتحملونها دون ذنب اقترفوه (فيلم «آمين» (إماراتي)، «أنا ملاك صغير« (فلسطيني).
بعض الأفلام ركزت على تقديم نماذج من الأعمال والبرامج والنشاطات التي تقوم بها جمعيات ومراكز التأهيل وتدريب المعوقين وقد برز في هذه النموذج الجانب التوعوي والإعلامي وكذلك محاولة هذه المراكز ربط برامجها ومناهجها التأهيلية والتدريبية بقدرات واهتمامات المعاقين: موسيقى ورسم ونحت (دنياهم / فيلم لبناني).
فيلم «الصرخة» الذي اعتبره البعض بكونه لا يقدم صورة ايجابية عن المعاق يمكن النظر إليه بكونه يقدم نموذجاً حياتياً واقعياً لأن قضية الثأر والانتقام بغض النظر عن سلبيتها ظاهرة اجتماعية وإنسانية موجودة لدى فئات المجتمع عامة،… الفيلم هو أيضا صرخة قوية ضد الاستغلال والظلم.
بالإضافة إلى القضايا السابقة التي تمت مناقشتها حول الأفلام المستعرضة، هناك قضايا أخرى كثيرة يمكن أن تعالجها السينما خدمة لقضايا المعاقين ومساعدة لهم في التغلب على أغلب المشاكل التي يواجهونها.
خاتمة
تعتبر قضية المعاقين من أهم المشكلات الاجتماعية التي يواجهها العالم اليوم خاصة في بلدان العالم الثالث التي يعيش فيها أكثر من ثمانين بالمائة من معاقي العالم والبالغ عددهم حوالي 600 مليون نسمة. ورغم ضخامة أعداد البشر الذين يعانون من هذه المشكلة إلا أن الوقائع تشير إلى معاناة هذه الشريحة الكبيرة وحرمانها من كل حقوقها وتعرضها للتمييز والتهميش والاضطهاد والاستغلال.
ومن الواضح أن الجهل بطبيعة المشكلة وشيوع العديد من المعتقدات والتصورات السلبية الخاطئة لدى أغلبية الناس حول الإعاقة والمعاقين يلعب دورا مهما في التعامل الاجتماعي غير المنصف وغير السليم مع قضايا المعاقين ناهيك عن الظروف الاجتماعية الصعبة التي تعاني منها الكثير من الدول والمجتمعات الإنسانية.
وعليه فإن السينما تقدم أحد المنافذ الفنية والاتصالية الهامة القادرة علي الإسهام بفعالية وتأثير كبيرين في تغيير كثير من التصورات والآراء السلبية حول هذه القضية وكذلك غرس قيم ومعتقدات إيجابية جديدة. هناك لاشك بدايات وأعمال متميزة في هذا الاتجاه ولكنها غير كافية.
المصدر : المنال رؤية شاملة لمجتمع واع