الكاتب : عصام مفلح
يواجه أطفال عديدون في سنواتهم الأولى مصاعب في نطق الكلمات أو تعلم القراءة (ديسلكسيا) فيما بعد على مقاعد الدراسة. وقد وقف الآباء والأطباء ـ على حد سواء ـ حائرين ومكتوفي الأيدي تجاه هذه المشكلة. وفي هذه المتابعة العلمية التي نشرتها مجلة (آفاق علمية) Scientific Horizons نستكشف اختراعاً جديداً يحمل الأمل لأولئك الأطفال.
تقول كاتبة المتابعة الدكتورة ساندرا بليكسلي: لقد ظلت مشكلة الأطفال الذين يجدون صعوبة في النطق وتعلم اللغة موضع جدل لأمد طويل، فبعض العلماء اعتبرها ناجمة عن قصور في حواس الطفل الادراكية، فيما رأى آخرون أنها نتيجة لعيوب خلقية في جهاز النطق لدى الطفل، وهو الجهاز الذي يشمل الشفتين واللسان والأسنان واللهاة والحبال الصوتية.. لكن الأبحاث التي أجراها طبيبان أمريكيان أثبتت غير ذلك.
وقد أثارت النتائج التي أعلنها الطبيبان، وهما باولا ماك كومي من جامعة روتجرز في نيويورك ومايكل ميرزفيتش من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو اهتمام الأوساط العلمية بصورة ملحوظة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها يوجد عشرة ملايين طفل يعانون من مرض (ديسلكسسسيا) وهو الصعوبة التي يواجهونها في النطق والقراءة على الرغم من أنهم يتمتعون بمستويات ذكاء ودوافع طبيعية.
في أول الأمر، تركزت الدراسة على الكيفية التي يستقبل فيها الطفل، ويتقبّل، الوحدات الصوتية المختلفة (الفونيمات) التي يسمعها إذا كان سليم السمع، وقد تبيّن أن الطفل يستطيع تمييز الأصوات في أسابيعه الأولى، ثم يبدأ حوالي الشهر السادس من عمره، وربما قبل ذلك بقليل، في تمييز الفونيمات البارزة في اللغة المحكية حوله، وتقليدها… وهكذا تصدر عنه الأصوات التي نسميها باللهجة الدارجة (المناغاة) وهي تشمل مقاطع مثل: بـ … آ، هـ … آ، دو….، تـ … آ، كـ … آ، وغيرها.
وتتم عملية إدراك واستيعاب تلك الوحدات الصوتية بعملية سريعة للغاية من الدماغ. فالطفل يلاحظ أن المتكلم أطبق شفتيه، فيصدر عنهما صوت حرف (الباء) أولاً، ليتبعه فتح الشفتين، ثم صوت (آ…ه) بعد فاصل زمني غير محسوس يصل إلى 40 جزءاً من الألف من الثانية، وهكذا يتحد الصوتان، فيسمع الطفل لفظ بـ …. آ، ويعني هذا أن على عقل الطفل أن يميّز مختلف الوحدات الصوتية عن بعضها خلال زمن لا يتجاوز أربعة أعشار الثانية، معتمداً على تلك الفواصل الزمنية ذات الدقة البالغة التي تفصل بين كل حرفين، والتي هي في واقع الأمر الغراء الذي يدمج الحروف لتشكيل الكلمات.
وترى الدكتورة ماك كومي أن صعوبة النطق والقراءة ترجع ـ ولأسباب مجهولة ـ إلى أن الخلايا الواقعة في قشرة الدماغ السمعية لا تستطيع تمييز الوحدات الصوتية ذات التواتر السريع. ويرجع هذا إما لأسباب خلقية أو لالتهاب في قناة الأذن، فالخلايا السمعية تتآلف عندها مع الوحدات الصوتية بطيئة الايقاع فقط، وتكون النتيجة عدم القدرة على التمييز بين الوحدات ذات التوتر المتماثل، مثل بـ … آ، د … آ، وعندها يعمل الدماغ على تعويض ذلك النقص، ويحقق النجاح لدى معظم الأطفال. ويعتمد ذلك على مراقبة تعابير وجه المتكلم وجسده، واستنباط معاني الكلمات التي فاتتهم من الكلمات التي فهموها.
لكن المشكلة تتفاقم لدى أولئك الأطفال الذين لا تستطيع أدمغتهم التعويض، وخصوصاً بعد انتقالهم إلى المدرسة، حيث يتصّور المعلمون أن الطفل المبتدئ قد أنهى تعلّم الكلام في البيت.. وهكذا تتولد لدى هؤلاء الأطفال عقدة نقص قوية تستمر معهم، فيتوقفون عن دراستهم في مراحلها الأولى ويفشلون في حياتهم العملية.
وعندما التقت الدكتورة ماك كومي بالدكتور ميرزيفيتش وبحث الاثنان المشكلة، اتفقا على أن الحل الوحيد المنظور يكمن في تلقين عقل الطفل معلومات يستطيع التعامل معها. وبكلام آخر، إطالة الفواصل الزمنية التي تفصل بين كل حرفين في الوحدات سريعة التواتر، وهو ما يمكن تسميته (الكلام المعالج).
ولهذا الغرض، احتاج الطبيبان إلى تدخل خبير حاسوب، فوقع اختيارهما على الدكتور ويليام جنكيز الذي قام بتطوير أربع لعب حاسوب مشوقة وزاهية الألوان، ويستخدم معها الأطفال نظارة تنقل لهم كلمات صادرة عن شخصيات ألعاب الحاسوب. وهذه الكلمات تتكون من وحدات صوتية تمت معالجتها بحيث يجري تواترها بسرعات أبطأ من السرعات العادية، ثم تتزايد السرعات تدريجياً. والمطلوب من الطفل تكرار تلك الكلمات، فإذا فعل ذلك بصورة صحيحة، فإنه يستطيع تحريك اللعبة ونيل علامات إضافية. أما إذا أخطأ، فإن النظارة تعود آلياً إلى سرعات أقل.
وقد أجريت التجربة الأولى على سبعة أطفال يعانون من مرض الديسلكسيا، وتتراوح أعمارهم بين 5 و 9 سنوات، لكنهم متأخرون عن أمثالهم من الأطفال بما معدله سنتين في مهارات النطق. وقد استمرت التجربة ستة أسابيع كان الأطفال يمارسون الألعاب خلالها بمعدل ثلاثة ساعات ونصف ولستة أيام في الأسبوع. وفي نهاية الأسبوع الرابع تمّ اختبارهم، فجاءت النتائج مذهلة.. لقد تجاوز جميع الأطفال وخلال شهر واحد فقط فرق السنتين اللتين كانتا تفصلانهما عن رفاقهما.. بل إن بعضهم حقق مستويات تفوق المعدل الطبيعي. وبعد ثلاثة أشهر، تم اختبار الأطفال ثانية، فأكدت النتائج أنهم حافظوا على مستوياتهم التي وصلوا إليها ولم يتراجعوا، ودل ذلك على أن مشاركتهم في الأحاديث اليومية عزز من المكاسب التي حققوها أثناء التجربه ومنذ ذلك الحين أعيد الاختبار على أعداد أكبر من الأطفال، وفي كل مرة كان النجاح حليف الاختبارات.
وهكذا فتح المجال أمام ملايين الأطفال الذين يعانون من صعوبة النطق في كل أنحاء العالم للتغلب على مشكلتهم بواسطة تلك النظارة العجيبة.