الكاتب : د. مأمون طربية
(إذا كانت شفتاك صامتتين فأطراف أصابعك تتحدث)
فرويد
عرفت المجتمعات البشرية ردحاً من الزمن خلال تاريخها القديم أنواعاً متعددة من اتصالات الإشارة، فالإنسان البدائي كان يستعملها ليعبر عما يكنه ويشعر به ويريد إبلاغه؛ رقصاً أو وشماً أو صوتاً أو تمثيلاً، مستعيناً فيما بعد بوسائل تعبير غير ذاتية كالدخان والنار والصدى والحمام الزاجل والرايات إعلاماً للمسافات البعيدة.
لكن الحال في الاتصال لم يبق على ما هو عليه في بداياته، إذ أن المتتبع لظاهرة الاتصال الإعلامي يلاحظ أنها مرت بمراحل تطورية عديدة؛ فبعد أن كانت في مرحلة تاريخية قديمة تعبر عن ظاهرة فردية بسيطة ومحصورة أصبحت في فترات تاريخية لاحقة تعبر عن حالة من الشمول والآنية و(التعقيد).. فبين عراف القبيلة البدائية الذي كان يستطلع الطقس ليبلغ قومه إذا كان يمكن العمل بالأرض أو لا يمكن، ورصد المناخ بواسطة الأقمار الصناعية مسافة شاسعة خطاها الإعلام تقنية ومضموناً، ومما يلاحظ أيضاً أن في كل وسيلة إعلامية قديمة كانت أم حديثة تكون الإشارة هي الرسالة، من أكثرها سكوناً (المحادثات المباشرة وايماءات الرأس أو الوجه) إلى أكثرها وضوحاً وحيوية (الفيلم المتلفز)، ففي كل منها إشارات بالغة الدلالة حتى إذا ما أردنا أن نصنف وسائل الإعلام تبعاً لهذه السمة / الإشارة لبدا أمامنا: اتصال لفظ واتصال إشارة.
في الاتصال اللفظي هناك عملية تواصل متفاعل بين مرسل وآخر مستجيب لرسالة مقصودة الغاية سواء كانت هذه الرسالة لغة منطوقة أو مكتوبة أو مرئية.
أما في الاتصال غير اللفظي أي (الإشاري) فإن هناك عملية اتصال أيضاً إنما بلغة أخرى تعتمد التعبير الرمزي أساساً في أشكال متعددة منها: اللغة الحركية (أي التعبير بحركاتنا واتجاهاتنا الجسدية)؛ اللغة الانفعالية (ملامح الوجه / النظرات و…)، نظام الإشارات المستخدم في مجالات الحياة اليومية كإشارات المرور الضوئية أو الصوتية أو الشكلية التي توضع هنا وهناك للإرشاد والتوجيه؛ ونظام إشارات مورس المستخدمة في التهاتف البرقي أو الشيفرات المرمزة في المجالات العسكرية والحربية، وهناك أيضاً نظام الإشارات الخاص بعالم ذوي الإعاقة السمعية الذي يتضمن بدوره تقنيات متعددة من أبجدية أصابع، الشفاه المتحركة، والإيماءات الدالة، حيث هنا ـ كما يقول آلن بيز المتخصص الاسترالي في الإشارة ـ ثمة (تركيب شكلي يمكن قراءته وفهمه تماماً مثل اللغة)، أي أن في كل اتصال هناك لغة محددة (مدركة كانت أو مؤشرة) لها دلالاتها النفسية والثقافية والاجتماعية.
ومثلما للغة دورها الهام في الإعلام أخذ الباحثون في علم الاتصال والاجتماع ـ مؤخراً ـ يولون الاتصال غير اللفظي عناية لا تقل أهمية عن غيره لما يمثله هذا الاتصال ـ وعلى حد تعبير باحث أميركي في علم الفس الاجتماعي ـ من (واجهة لغوية إضافية تمنح اللغة المنطوقة غنى وعمقاً، لا يمكن للكلمات وحدها أن تنقلها).
وحيث أن وسائل الإتصال لها مثل هذا الدور الهام في حياتنا فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن جماهير وسائل الاتصال أصبحت وفي مرحلة الاتصال الالكتروني ـ الفائق والمتفاعل ـ شعوباً بأكملها، ولم يعد بالإمكان إلا أن تكون ثاني إثنين: إما متلقياً وإما مرسلاً، إذ لا اتصال خارج الاجتماع ولا اجتماع دون اتصال، ومع تطور تكنولوجيا الاتصال تقلصت الحدود أمام شمولية مادتها وتقنيتها لتغدو المجتمعات ـ وعلى رغم تفاوتها ـ مجالاً مكانياً واحداً يتلقى المادة نفسها من مصدر واحد إلى أبعاد مختلفة ومن أبعاد متعددة إلى عوالم أخرى في شبكة اتصالية أشبه ما تكون بخيوط العنكبوت منه وإليه ينتهي النسج.
+لكن في ظل هذا التطور المتسارع يبقى علينا أن ندرك أنه برغم وجود الجمهور العام Mass Audience ثمة مكان لجمهور متخصص Specialized Audience، ذلك أن الدول الناشطة اجتماعياً أخذت تكرس أسس اتصال خاصة للدخول إلى (عالم من لا يدركهم الاتصال)، ونعني بذلك المعوقين حسياً، فالصم مثلاً ومع افتقاد سمعهم يشعرون بـ (الفائت المعرفي) لما يدور حولهم، لدرجة ـ وبحسب بعض الدراسات ـ يبدون أقل معرفة للشؤون العامة من العاديين بما نسبته 20%. من أجل ذلك نشطت الهيئات الحكومية وغير الحكومية في دول عدة لايجاد لغة إشارة خاصة تكسر عزلة أبناء هذا (العالم) عن مجتمعهم وتهيىء الآخرين الدخول إلى عالمهم بسهولة.
ورويداً رويداً دخل الصم عالم الإعلام، فكان المرئي منه (طبقهم المفضل) لما يعتمده من حركية ألوان وإشارة وإعلان وصور، فالصورة وكما يقول المثل الصيني تغني عن ألف كلمة، فكيف الحال إذا كانت هذه الصورة متحركة بتقنيات فنية رائعة!.. ونشط مهندسو وسائل الاتصال الحديثة بتطوير اختراعاتهم الاتصالية كي تتلاءم ومختلف شرائح المستهلكين بما فيهم المعاقون ففي الإعلام السمعي مثلاً تطور الهاتف الثابت إلى المتحرك Mobile وفي المتحرك رموز وإشارات ورسوم يمكن للأصم الاستعانة بها للإعلام أو الاستعلام، وفي الإعلام المرئي (التلفزيوني خاصة) اقتحم الصم الشاشة من خلال نافذة صغيرة لترجمة المكتوب إشارة.
ولعل تجربة الإشارة في محطات تلفزة بعض الدول خطوة رائدة خطاها المعنيون كدلالة عن حالة من التقدم الاجتماعي أخذت تنحو نحوه كي ترقى إلى مصاف الدول المهتمة بشؤون الإعاقة وكافة احتياجاتها؛ تربوياً وتأهيلياً ومعرفياً، ويؤشر أيضاً إلى التزامها بالمواثيق الدولية الصادرة بشأن تحقيق تكافؤ الفرص للمعقين، إذ في هذا الإطار وضعت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة في دورتها (48) في 1994/12/20 (قواعد موحدة) كمجالات تستهدف المشاركة على قدم المساواة، حيث أشارت القاعدة الخامسة منها إلى فرص الوصول وضرورة الحصول على المعلومات وإجراء الاتصالات ونصها:
ينبغي للدول أن تعد استراتيجيات لوضع خدمات الإعلام والتوثيق في متناول فئات الأشخاص ذوي الإعاقة (…) وينبغي استخدام التكنولوجيا الملائمة لوضع المعلومات المنطوقة في متناول الأشخاص ذوي الإعاقات السمعية أو الذين يشكون من صعوبات في الفهم.
ينبغي توفير خدمات الترجمة إلى لغة الإشارات لتيسير التخاطب بين الصم وغيرهم من الأشخاص. وتمشياً مع هذه الخطوات الهامة في عالم الإعاقة السمعية تجاه الإعلام التلفزيوني بادرت الشبكة الوطنية اللبنانية للإرسال (NBN) بالتنسيق والتعاون مع الجمعية اللبنانية لرعاية المعاقين (LWAH) مؤخراً إلى القيام بتجربة رائدة ومميزة تجلت في قيام إدارة تلفزيون الشبكة المذكورة باعتماد لغة الإشارة في إحدى نشرات أخبارها، وقد اعتبر المعنيون هذه التجربة مميزة انطلاقاً من جملة مؤشرات أبرزها:
وبسياق اتصال الإشارة نعرج على ما يجري حالياً من جدل قوي بين المنادين بالاعتماد على قراءة الشفاه وضرورة تعلمها وأنصار الخطاب الإشاري (القائلين بأبجدية الأصابع أو الايماءات الأخرى باليد)، هنا لا يجب تضخيم هذه المشكلة، ذلك أن الباحث في شؤون الإعاقة ديفيد ويرنر يوصي بما يسميه (الاتصال الشامل) وهو عبارة عن خليط من طرق الاتصال المعروفة بعالم الصم، وقد توصل لاستنتاجاته هذه من خلال مراقبة طرق الاتصال بينهم فوجد أن الاتصال الشفهي غالباً ما تكون نتائجه مخيبة للآمال لأن قارىء الشفاه الماهر يمكنه أن يفهم حوالي 40 إلى 50 بالمئة من الكلمات، فضلاً عن مشكلة أن بعض الكلمات تتشابه في حركة الشفاه (كلمة بابا ككلمة ماما) ثم أن الاتصال الشفهي ـ كما يرى كاتب هذه المقالة ـ يبطىء التطور اللغوي، فالطفل الأصم في عمر 5 ـ 6 سنوات ـ في رأي كاتب المقالة أيضاً ـ لا يتعلم أن يتكلم أو يقرأ الشفاه سوى لعشر كلمات على الأكثر، في حين يمكن للطفل نفسه أن يكون قد تعلم بسهولة ما يزيد على 2000 إشارة ـ أي ما يعادل عدد الكلمات التي قد يكون تعلمها طفل غير أصم. لذلك أظهرت بعض الدراسات الخاصة أن الصم الذين يتعلمون استخدام الإشارات والايماءات يمكنهم إقامة اتصال في سهولة أكثر وفي وقت مبكر أكثر وبشكل أكمل من أولئك الذين لا يعلمون إلا الاتصال الشفهي. ومن الناحية العملية تعلم لغة الإشارة والحركات الأخرى المعبرة أولاً يجعل من السهل على متعلمها معرفة حركة الكلمة أو قراءة الشفاه فيما بعد.
ومع اختلاف الآراء في هذه المسألة نقف عند قول فارث وهو سوسيولوجي بأنه: (كلما كانت اتصالات الأصم بالواقع منوعة ودالة كلما كانت الأسس الفكرية أحسن).
على ما تقدم نخلص إلى القول بأنه لم تكن الإعاقة السمعية يوماً لتمنع صاحبها ـ فيما لو أهل التأهيل الملائم ـ من أن يكون عنصراً مفيداً في المجتمع، والأمثلة على ذلك لا تحصى من بتهوفن الذي لم يمنعه صممه من إبداع السمفونية التاسعة، إلى أديسون الذي كان صممه باعثاً على اختراع ما يستعمله الناطقون ونعني بذلك الهاتف والفونوغراف، إلى فورد الذي قدر بدوره قيمة عمل الصم في معامله نظراً لامكاناتهم الجسدية في العطاء بل ولقلة ثرثرتهم..
فإلى إعلام فاعل تقوم به الإشارة مقام العبارة.
المصدر : المنال رؤية شاملة لمجتمع واع