عندما كان ماثيو غونزاليس في شهره الثامن، لاحظ طبيب الأطفال أنه يواجه صعوبة في التحرك. افتقر ماثيو إلى التوتر العضلي، وما كان يرضع بطريقة صحيحة. اقترح جده، وهو خبير متخصص في علم الأمراض الطبية، على والدي ماثيو، أوسكار غونزاليس ومرسيدي أوباغا، أن ينقلاه إلى ما كان يُعرف آنذاك بمستشفى ميامي للأطفال، حيث خضع للتقييم وشخص الأطباء إصابته بحالة حادة من التوحد، وهو مريض هناك منذ ذلك الحين.
يبلغ ماثيو اليوم الثامنة من عمره، وهو لا يتكلَّم، فضلاً عن أنه يواجه صعوبة كبيرة مع المهارات الحركية الأساسية. فلا يمكنه الاستحمام، ارتداء ملابسه، أو دخول الحمام وحده. كذلك يعاني الصرع، ما يجعله عرضة للنوبات. يذهب ماثيو راهناً إلى Our Pride Academy، وهي مدرسة لأصحاب الحاجات الخاصة لمن تتراوح أعمارهم بين الخامسة والخامسة والثلاثين.
يقول غونزاليس (38 سنة): {أنا مستعد لأن أهب كل ممتلكاتي فقط لأسمع ابني يقول اسمي}.
تشير التقديرات الأخيرة الصادرة عن مراكز ضبط الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة إلى أن واحداً من 68 ولداً يُعانون مستوى ما من اضطراب طيف التوحد. صحيح أن التوحد أكثر انتشاراً بين الصبية بنحو خمسة أضعاف، إلا أنه يصيب كل الإثنيات والعروق والطبقات الاقتصادية- الاجتماعية.
لا يشير مصطلح {التوحد} الشامل إلى مرض واحد، بل إلى طيف من الاضطرابات التي تتصف بقدرة محدودة على التواصل مع الآخرين والميل إلى القيام بأنماط سلوك متكررة ومحدودة. في أحد طرفي الطيف نرى مرضى مثل ماثيو يتطلبون رعاية وإشرافاً مستمرين. لكن طيف التوحد يشمل أيضاً آخرين فاعلين جداً في المجتمع. ويجعل هذا الفهم المقاربة، التي تلائم كل الحالات والتي تنطبق على كل الأبحاث والعلاجات وحتى عمليات الشخيص، قديمة الطراز.
تركز المقاربات الأحدث في هذا المجال على الأولاد الصغار وتعتمد على تقنيات جديدة بغية تحليل مواد الدماغ الكيماوية، السلوك، وأنماط العلاج.
يذكر الدكتور روبرتو تاتشمان، مدير برنامج التوحد والنمو العصبي في مستشفى نيكلاوس للأطفال: {لا نعالج اضطرابات طيف التوحد، بل نعالج كل ولد يعاني أنماط سلوك تتلاءم مع تشخيص اضطرابات طيف التوحد. وبهذه الطريقة، نصمم علاجات دقيقة لكل ولد على حدة}.
بالنسبة إلى عملية التشخيص، لا يتوافر فحص دم أو تخطيط لكهرباء الدماغ أو تصوير بالرنين المغناطيسي يؤكد إصابة الولد بأحد اضطرابات طيف التوحد. نتيجة لذلك، نرى اليوم بعض التضارب بين الخبراء في هذا المجال بشأن ما إذا كان هذا الاضطراب في تزايد أو أن التكنولوجيا الجديدة والمعلومات المتوافرة سهلت تحديد الأعراض.
يوضح تاتشمان: {نحدد اضطرابات طيف التوحد ونشخصها من خلال السلوك فحسب، مع أنها تُعتبر إحدى المشاكل العصبية. أوضح للأهل ما هي أنماط السلوك ونتوصل إلى تشخيص الحالة معاً، إذا جاز التعبير. وتعود أهمية الحصول على تشخيص لاضطرابات طيف التوحد إلى تأمين تدخلات تعليمية وسلوكية ملائمة تساهم في معالجة أنماط السلوك هذه}.
في مركز التوحد والإعاقات المرتبطة به في جامعة ميامي، يستخدم باحثون، مثل لوسينا ك. أودين، بروفسورة مساعدة متخصصة في علم النفس في جامعة ميامي، التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي بغية مراقبة التبدلات في تدفق الدم في دماغ مرضى اضطرابات طيف التوحد، بمن فيهم أولاد في سن السابعة. لا يعلم الخبراء الذين يدرسون التوحد ما التبدلات التي قد تطرأ على دماغ مرضى اضطرابات طيف التوحد بمرور الوقت أو ما إذا كان هنالك من مؤشرات محددة يمكن الاعتماد عليها لمعرفة مَن سيُصاب بالأعراض. حتى اليوم، لا يملك الباحثون القدرة أو الموارد لجمع هذا النوع من المعلومات.
فازت أودين أخيراً بمنحة من المعاهد الوطنية للصحة بغية مراقبة تفاعلات الدماغ مستخدمةً آخر ابتكارات التصوير العصبي، علوم الكمبيوتر، والهندسة الكهربائية. تشير النظرية إلى أن بعض أعراض اضطراب طيف التوحد، مثل أنماط السلوك المتكررة، يعود على الأرجح إلى صلابة كامنة في وظائف الدماغ.
توضح أودين: {نملك اليوم أدلة على أن بعض أجهزة الدماغ يبدو مختلفاً لدى الأولاد الصغار من حيث أنماط التواصل التي تزداد أو تتراجع في بعض المجالات. وقد يساهم هذا في معالجة بعض المشاكل المرتبطة بعمليات التشخيص}.
يستخدم دانيال مسينجر، بروفسور متخصص في علم النفس في جامعة ميامي وباحث يدرس التوحد، التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي وتقنيات تتبع الوجه والجسم بهدف دراسة التفاعل بين المرضى الصغار وبيئتهم. يرأس هذا الباحث راهناً دراسة عن الأطفال والأولاد الصغار الذين لديهم إخوة أكبر سناً مصابون باضطرابات طيف التوحد.
يؤكد مسينجر: {سيُصاب خمس هؤلاء الأولاد باضطرابات طيف التوحد، في حين سيتعرض خمس آخر لتحديات من نوع آخر. لكننا لاحظنا أن تفاعل الأهل يساعد كثيراً الأولاد الذين سيُصابون باضطرابات طيف التوحد، ويتخطى هذا الواقع كل ما يرتبط بعمليات التشخيص. يبقى الأهم كيفية تحسين مسار الولد التنموي}.
يضم مركز التوحد والإعاقات المرتبطة به في جامعة ميامي نحو 9 آلاف عضو. أنشأ هذا البرنامج في ثمانينيات القرن الماضي الأهل، الأساتذة، وأعضاء آخرون في المجتمع كانوا يبحثون عن معلومات موثوق بها بشأن اضطرابات طيف التوحد. يجرب هذا المركز اليوم دراسات، يقدّم مخيمات للتوظيف، يقوم بإحالات إلى معالجين وأطباء، وينسق العمل مع منظمات خيرية لتنظيم نشاطات التواصل. وينظم هذا المركز راهناً مبادرة لمساعدة الأهل على تعلم مهارات تجارية بغية تأسيس أعمال مربحة لأولادهم الذين يعانون إعاقات محددة.
يقول مايكل أليساندري، المدير التنفيذي لمركز التوحد والإعاقات المرتبطة به في جامعة ميامي ونائب رئيس قسم علم النفس: «أؤكد للأهل أن سبب تواجدنا هنا هو مساعدتهم على رؤية المسائل الأكثر أهمية وسط هذه المعمعة. فإن كنت تريد نصيحة، فخذها من شخص لا يحاول بيعك أمراً ما». إذاً، ما يعني كل هذا لماثيو؟
يقول غونزاليس: «لي ملء الثقة أن شخصاً ما سيتوصل قريباً إلى اكتشاف العوامل التي تسبب التوحد للأولاد وطرق الوقاية منه أو حتى منح المرضى فرصة العيش حياة ناجحة».
تعلم ماثيو لغة الإشارات بغية التعبير عن حاجاته الأساسية لأهله. كذلك من الممكن استخدام تطبيقات مساعدة جديدة على الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية لمساعدة مرضى اضطرابات طيف التوحد العاجزين عن النطق على التعبير عن أنفسهم. نتيجة لذلك، صار أكثر تفاعلاً مع العلاج والتعليم المدرسي.
يختم غونزاليس: «نواصل العمل وكلنا أمل أن يحقق ذات يوم التقدم. لا شك في أن هذا صراع صعب. إلا أننا لن نستسلم مطلقاً».
المصدر :دانيال هيدالغو \ جريدة الجريدة