[B][COLOR=#0D0D0C]مؤسسات ودور الأيتام تنوعت في تقديم الرعاية الكافية للأطفال الذين لم يحظوا بالحياة كما يجب، فكان لها الدور الأبرز في محاولة تعويض الطفل لحنان أمه وعطف ورعاية أبيه، لكن مؤسسة “السندس” انفردت بكفالة الأيتام ذوي الاحتياجات الخاصه فهى تعتبر الدار الوحيدة المؤهلة لتقديم الخدمة الأكاديمية اللازمة لهم، بالرغم من احتراق المقر الأول لها بعد أن تم إعادة تطويره، لم يمنعهم ذلك من التحضير للاحتفال بيوم اليتيم الذي يوافق أول جمعة من شهر أبريل الجارى، فيتحدث القائمون بالمؤسسة عن دورها البارز في توفير الإمكانيات اللازمة لإدخال البهجة في نفوس الأطفال في ذلك اليوم.
“الابتسامة”.. هى الحل السحري لاحتلال قلوب أولئك الأطفال الذين تمتعوا بقدر عالى من النشاط والأمل في تحدى الإعاقة التي التحقت بهم منذ أن كانوا صغارا فمنهم من يستقبلك من الوهلة الأولى لحظة إطلالك على الدار.. ويقول لك “بحبك يا ماما تعالى سلمى عليا”، سريعا ما تعطيك تلك الكلمة إحساسا بالألفة للمكان الصغير الذي هو عبارة عن دور كامل في إحدى بنايات مدينة نصر، مكون من 6 حجرات، 3 منها ينام بها الأطفال، والأخرى: حجرة للادوية التي يتناولها الأطفال ذوو الحالات الخطرة كإسعافات أولية لهم لحين نقلهم سريعا إلى أحد المستشفيات لمتابعة حالتهم، والأخرى لتوفير جلسات العلاج الطبيعي التي يجريها الطبيب المقيم بالدار، أما الأخيرة فهي حجرة التخاطب التي من خلالها تقوم الدكتورة أمل عبد الرحمن صالح رئيس مجلس أمناء المؤسسة واستشارى إعداد البرامج التأهيلية والتعليمية لذوي الاحتياجات الخاصة، بتخصيص 3 ساعات مقسمة على الـ 30 طفلا بجلسات تخاطب، تساعد على تنمية قدرات الطفل ذوى الاحتياجات الخاصة للإسراع من خطوة اندماجه مع العالم الخارجي وتأهيله لخوض المرحلة التعليمية التابعة لوزارة التربية والتعليم، بخلاف الحالات الخطرة التي من المستحيل أن تستوعب تلك المناهج لشدة صعوبتها.
“أنا نفسي أطلع طيار مدنى.. واشتغل في السعودية وأجيب فلوس كتير”.. أمنية من أمنيات كثيرة قد ملأت المكان الصغير للطفل جمال عمر، الذي يحلم بالتحليق في السماء بحثا عن فرصة عمل بإحدى الدول الخليجية لما فيها من أموال طائلة من اليسير عليه أن يجنيها، فلم تمنعه إعاقته الذهنية أو نوبات الصرع التي تنتابه من حين لآخر عن أن يكون قرة عين مشرفى الدار، فهو كما تصفه إحدى المشرفات “الطالب النجيب”، استطاع أن يحفظ عددا من آيات القرآن الكريم، إضافة إلى ذلك العلامات النهائية في اختبارات المدرسة، فتقول عنه داليا أحمد المشرفة بالدار “أول ما جيت، كان جمال دايما عنده حافز وإصرار رهيب في أنه يتقدم ويفوق زمايله ويجذب انتباه كل اللى حواليه بطريقته المرتبة في الكلام”، تتابع الفتاة العشرينية سرد أحلام تلك البراعم الصغيرة قائلة “كل اللى عليك يبقى معاك تورتة عليها صورته وبلونة، دول كافيين جدا لإسعاد أى طفل عندنا، وأكتر حاجة بتفرحهم لما أقول لواحد فيهم مع بداية الشهر عيد ميلادك قرب، يجرى يقول لزمايله فالمدرسة ويحكيلهم إزاى هنعمله عيد ميلاد”، بينما يرى يوسف أحد الأطفال الذي يتمتع بقدرة عقلية فائقة، أنه من الأفضل أن يكون ظابطا حتى يستطيع القضاء على “الحرامية”، حسب قوله، بينما كان لأحد الأطفال موهبة أخرى كاد أن تتعالى ضحكاته بين أرجاء المكان قائلا “عاوز أطلع فرّان”، فيرد يوسف عليه قائلا “أصله شاطر فأنه يعمل العيش اللى أحنا بناكله”، هكذا كانت الأحلام الصغيرة تسكن عقولهم يستيقظون وينامون عليها مستعدين في يوم من الأيام لتحويلها إلى حقائق ملموسة.
المؤسسة مكونة من 3 أفرع، مقسمة حسب المرحلة العمرية ونوع الإعاقة للطفل، بشرط أن تكون المرحلة العمرية متقاربة لسرعة الاندماج والاختلاط، الفرع الأول يضم الأطفال منذ لحظة الميلاد إلى سن الخامسة، أما الفرع الأخر من سن الـ5 سنوات وحتى 10 سنوات، يأتى الفرع الأخير بمنطقة مصرالجديدة ليضم الأطفال من سن 10 سنوات إلى ما لا نهاية، إضافة إلى مدرسة “السندس” لذوى الاحتياجات الخاصة، التي بدورها مقسمه هى الأخرى لقسمين، الأول: تحت إشراف وزارة التربية والتعليم والذي تدرس فيه المناهج التعليمية العادية لبعض الأطفال، بينما القسم الآخر: للأطفال أصحاب الإعاقات الشديدة، فتنحصر المناهج التي يأخذونها في دورات تخاطب وتنمية مهارات وعلاج طبيعي وقراءة وكتابة.
بداية المؤسسة الكبرى التي قام على إنشائها مجموعة من المتخصصين في مجال الإعاقة، بمجهودهم الذاتي، كان الإشهار الأول لها كدار متخصصة للأيتام ذوي الاحتياجات الخاصة بتاريخ 15 سبتمبر 2003، بعد أن استغرق فترة عملهم قبل الإشهار سنة كاملة يقومون فيها بجولات ميدانية في كافة دور رعاية الأيتام، فوجدوا أن الطفل المعاق كتلة مهملة لا يستطيع أحد رعايتها بالشكل اللازم بالرغم من إظهار المحبة الكافية له، عندها قررت الدكتورة أمل أن توفر سُبل الراحة في مكان متخصص للأطفال الذين حرمتهم الدنيا من الأباء والأمهات وعلاوة على ذلك كان عجزهم سبب أدعى لتكوين تلك البناية، فتتابع قائلة “المعاملة الغير متزنة تجعل الطفل المعاق أكثر عرضة لتدهور حالته النفسية وبكدا بيحول اعتماده بشكل كلى على الآخرين، وده كافى جدا لوقف نمو قدراته العقلية والبدنية، غير عدم توفير العلاج السليم والتأهيل اللازم حسب نوع إعاقته”.. تشرح الدكتورة أمل مساوئ إيداع الطفل ذوى الاحتياجات الخاصة في دار أيتام للأصحاء، فهي ترفض ذلك لأن الطفل إذا وصل لمرحلة سنية معينة أصبح أكثر تعرضا لعدم التكيف مع زملائه.
“استلمنا فوق الـ200 طفل بعد إجراءات مطولة مع إدارة الشؤون الاجتماعية والأسرة والطفولة، اللي بتنتهى بقرار إيداع من النيابة وبنعمل محضر تسليم للطفل في المؤسسة عشان يبقي منتسب ليها، بس قدرنا نعثر على بعض الآباء، إلى أن وصل العدد الأساسى لأطفال الجمعية 130 طفلا، منهم 31 طفلا لم يتجازوا سن خمس سنوات”.. بعض المتاعب التي رافقت رحلة الكتورة أمل بصفتها رئيس مجلس أمناء المؤسسة، التي تؤكد أن بعض دور الأيتام فور سمعها بوجود دور متخصصة قاموا بإرسال الأطفال لهم للحصول على جلسات تخاطب وعلاج طبيعي، لكن لحظة عودته لداره مرة أخرى يجد صعوبة في التعامل مع الأم البديلة، التي بدورها تهدر المجهود المبذول مع الطفل منذ الصبح في ساعات قليلة فور أن تطأ قدمه الدار مرة أخرى بينما بعض المؤسسات كان لها رأي آخر “إحنا مش عارفين نتعامل معاهم خصوصا أن كل ما بيكبر في السن حالته بتبقي صعب السيطرة عليها” لذلك تنهى الدار كافة الإجراءات اللازمة للطفل حتى يلتحق بالمؤسسة التي ستهتم بدورها بتوفير الرعاية الكفاية له ــ حسب قولها، فتتابع “بعد ما نستلم الطفل بنوديه مستشفى يتم فحص حالته الصحية جيدا، مع كتابة ملف خاص بيه لتحديد الأمراض اللى بيعانى منها عشان نبقي عارفين نتعامل مع حالتة إزاى”.
“مؤهل عال لا يشترط التخصص.. محبة للأطفال.. صاحبة جلد وصبر”.. مواصفات وضعتها رئيسة المؤسسة للفتاة التي ستنال الوظيفة كمشرفة عامة على الأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة، والتي ستكون متابعة جيدة لحالتهم الصحية من كثب، إضافة إلى سرعة حل أى مشكلة تحدث مع الطفل سواء كانت بينه وبين أصدقائه بالدار، أو مشكلة صحية مزمنة، فتتابع المرأة الأربعينية مواصفتها في الأم البديلة والتي تعد المسؤولة الرئيسية عن الطفل فهى تعوضه عن الدور المعنوى للأم فتقول “إحنا شغلنا مع الأطفال مرهق ومتعب بيحتاج تفرغ كامل وصبر وحنان لاستجابة الطفل.. أولا بتشوف الأمهات التانية بتعمل إيه ومؤهلها الوحيد عشان تحصل على الوظيفة التعامل والاندماج اللى بينها وبين الطفل، فلو لاقينها حابة بنبدأ ندربها، وأحيانا كتير بتبقى في بنات عصبية وسريعة الغضب، وممكن واحدة تيجي أول يوم تعيط وتمشي وتقول لا يمكن أقدر أتعامل معاهم”.. التدريب يأتى في إطار إطعام الطفل وتغيير ملابسه بحرص شديد خصوصا مع أصحاب الإعاقات المزمنة، فمع بداية تدريبها تعيّن كأم مساعدة، وبعد أن تتجاوز فترة التدريب تصبح أما حقيقية مسؤولة عن الأطفال بشكل كلى، مؤكدة أن بعض الفتيات تفضلن الصراحة المطلقة قائلة “أنا يا إما أشتغل في المطبخ، يا إما أروح دار للأسوياء”.
الدكتورة أمل ترفض مبدأ “التبني” بمعني أن تكفل أسرة طفلا في منزلها ويصبح جزءا من حياة البيت، الذي لن يستطيع بسهولة نسيانه، “الطفل بيبقي عند أسرة متبنياه، وفجأة بدون أى سبب بيرجعوه تانى الشؤون، سواء زهقوا.. الأب مات.. حصل انفصال.. مش قادرين يرعوه لأنه معاق فبيرجعوه، وكأن شيئا لم يكن”، فيصبح الطفل معتادا على التربية المنزلية والاهتمام الأسرى، وأصبح لديه غرفته الخاصة والطعام الذي يفضله ومواعيد نومه ودراسته كيفما يشاء، وليس كنظام الدار التي يكون أساسها قائم على الرغبة الجماعية وليس رغبة طفل بعينه.. فجأة سُحب من تحت قدميه البساط ليجد نفسه وحيدا وغريبا بين أطفال لم يرهم من قبل، وبالتالى تتأخر حالته النفسية والصحية التي تؤدى به إلى الوحدة والانعزال، فتتابع أمل “الأسرة ما بتخسرش حاجه لكن الطفل هو اللى بيتدمر وبياخد فترة عقبال ما بنقدر نمحى أثر الأيام دى من حياته”، لم تقف تلك المشكلات عند ذلك الحد بل إن بعض الأسر المتبنية للطفل ذوى الاحتياجات الخاصة من بعض دور الأيتام قد ذهبوا إليها قائلين “إحنا كنا متبنين طفل معاق تاخدوه”، فتستشيط الطبيبة غضبا وسخطا على مثل تلك الأسر، التي تتعامل بمبدأ أن الطفل عبارة عن “شنطة” متنقلة من السهل تركها في أى مكان غير مبالين بمشاعره المختطلة تجاههم فهو يشعر بالحب الشديد نحوهم لكن هذا لا يمنع أن يكرههم أيضا، لأنهم ليسوا أبويه الحقيقيين، لافتة إلى أنه من رابع المستحيلات أن تتبنى أسرة طفل ذوى احتياجات دون أن ترجعه مرة أخرى “الأم بتبقى عاوزة طفل تحس معاه بالأمومة”، مؤكدة أن دار الأيتام ليست بالقدر العالى من الراحة لكن في مثل تلك الحالات تكون أهون وأقل ضررا على نفسية الطفل.
“إحنا مش بنخرج اليوم دا من الدار، بنعمل احتفال كبير للأطفال في الثلاث أفرع، وندعو الأولياء والكُفلة لمشاركة الأطفال فرحتهم باليوم، بيبقى عبارة عن فقرات من الساعة 10 الصبح لحد الساعه 9 بليل”.. الفقرات تضم أكثر من عرض، فهى عبارة عن “شو عرايس” و”فقرة الأرجوز” و “دى جى” وغناء ورقص وتلوين على الوشوش، إضافة إلى جو من المسابقات للأطفال ذوو القدرة العقلية الفائقة، وبين الفقرات تقدم وجبة الغداء، وبعدها بعض من الحلوى لإضافة روح العيد على اليوم، فتقول داليا مشرفة الدار “يوم اليتيم هيوافق عيد ميلاد أربع أطفال الشهر دا، جمال هيتم 6 سنين، وهانى 7 سنين، ونجوى 7 برضو، أما سيدة، وهى أصغر طفلة فيهم، هتم 4 سنوات”، ليست المناسبة هى السبب الوحيد لتمتع الأطفال بوسائل الترفيه “الأطفال كل أسبوع ليهم خروجتين، دا غير دروس تعليم السباحة للقادرين على الحركة”.
تذكر المشرفة بالدار مدى اهتمام المؤسسة بتنمية الجانب الترفيهى والرياضى بالطفل فتابعت “الأطفال كانت أكتر رحلتين مأثرين فيهم رحلة لحديقة الحيوان والتانية كانت في الأزهر بارك”.
“أنا مش هسيب أخواتى يتحرقوا أنا هفضل معاهم”.. كان ذلك موقف الطفلة “هدى” أحد الأطفال الموجودين بالدار لحظة نشوب الحريق، فهى لم تكن تدرك خطورة النيران المشتعلة من كل الجوانب، وإنما كان هدفها إبقاء إخوتها على قيد الحياة، فتصف الدكتورة أمل مشهد الحريق، الذي دام ساعتين، “الناس كانت بتسحف على بطنها علشان تشد سراير الأطفال شديدى الإعاقة وتبعدهم عن النار، لكن سبحان الله المكان اللى كان ناحية الأطفال لسه محتفظ بشكله وبدهانه الجديد والمراتب ممسكتش فيها النار مع أن التكيفات كلها اتكلت وبقت حديد متكوم على بعضه”.. حزن شديد انتاب كل العاملين من حريق الدار، بعد أن استطاعت إدارة المؤسسة تجديد الفرع الأول لها حسب رغبة الأطفال “الأولاد هما اللى اختاروا الألوان اللى بيحبوها وخلينا النقاش يرسملهم الرسومات اللى حبينها على حوائط غرفهم، بس نقول إيه؟ الحمدلله.. قدر الله وما شاء فعل”، بالرغم من أن الدار عمل إنسانى لكن بعض السكان بالمبنى تمنوا أن تشتعل الدار بكل من فيها، مبررين ذلك بأن هيئة الأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة تصيبهم بالتعب النفسي كل يوم وكل ليلة، هكذا تصف رئيس مجلس المؤسسة كواليس الحريق، وأقوال بعض سكان البناية الذين يطالبونها بالرحيل وعدم العودة مرة أخرى. [/COLOR]
[/B]