[B][COLOR=#080807]معنى أن تكون فاعلاً ومستقلاً وبعد أن كان يدرس الهندسة المدنية في الجامعة ويرسم خطوطاً عريضة لمستقبل واعد، وجد أحلامه وحريته مقيدتين على كرسي مدولبة وبحاجة للمساعدة في أبسط أمور حياته اليومية. كان بإمكانه الإستسلام لواقع مرير أصابه، ولكن هذا الإنسان تحدّى نفسه والمجتمع بأن استطاع، من خلال التفكير بما ينقصه لكي يكون مستقلاً، ابتكار الآليات الناجزة التي تساعده على كسر كل الحواجز التي تحول بينه وبين إمكانية أن يكون إنساناً فاعلاً ومستقلاً في الحياة.
“البيان” زارت فادي، في منزله في منطقة “الحدث”، حيث معرض إبتكاراته، وتحدث عن مصدر إلهامه وإنجازاته التي مكّنته من التحرر من مساعدة الغير واستعادة استقلاليته.
يشعر الداخل الى منزله وكأنه يعيش مغامرة حقيقية يبحث فيها عن ألغاز دفينة قد يعثر عليها بين طاولات سابحات في الفضاء أو في خزائن معلقة ومتشقلبة كبهلوان محترف أو جسر لنشر الملابس ينحني إجلالاً لصاحبه. بابتسامة عريضة يستقبل زواره، وبثقة كبيرة وعزة نفس يتحدث عن ابتكاراته التي سهلت حياته قائلاً: “بعد أن أمضيت نحو 15 عاماً أستعين بأشخاص لمساعدتي، رحت أفكر في المستقبل، وأنه سيأتي يوم لن يكون الذين من حولي الآن موجودين لمساعدتي، وعندها سألت نفسي ما الذي سيحل بي وكيف سأتابع حياتي؟ لذلك كان لا بد من التفكير بحلول تجعلني رويداً رويداً أتخلى عن مساعدة الناس وأسترجع استقلاليتي، فكان الإختراع الأول عبارة عن محرك ينقلني من السرير الى الكرسي وبالعكس. وبعد ان نجحت الفكرة رحت أبحث في كل المسائل الأخرى من الملابس وطريقة إرتدائها الى دخول الحمام والمطبخ وتحضير الطعام والركوب في السيارة إلخ…”.
تابع: “الإختراع التالي كان عبارة عن جهاز خاص بالسيارة لأتمكن من الصعود إليها وحمل الكرسي بمفردي. وبعد نجاح الفكرة إتخذت القرار ببناء منزل خاص بي ويكون متناسباً مع جميع متطلباتي، وقد اعتمدت على مبدأين: الأول هو أنني في هذا المنزل سأكون قادراً على الوصول الى كل زاوية من زواياه. أما المبدأ الثاني فهو أنني سأجعل جميع أغراض المنزل تأتي إليّ عوضاً عن أن أذهب أنا إليها”.
كل الأغراض تتحرك لخدمته
ومثلما فكّر فادي: فلقد وضع تصميماً قام بتنفيذه بداية مع المنزل المصمَّم على شكل “ستديو” صغير مفتوح على بعضه البعض دون عتبات أو أبواب، فيما خلا جرّار يفصل بين غرفتي النوم والجلوس، أما في غرفة نومه فجميع الأغراض تأتي إليه. فخزانة الملابس مزوَّدة بحبل يؤدي سحبُه الى تقلّب جواريرها حتى يتمكن من انتقاء ملابسه الداخلية التي يضعها في إحداها، فيما سحب حبل آخر يدفع بأحشائها، حيث تعلق القمصان والسراويل الى الهبوط والإنحناء حتى يختار منها أو يعلق ما يرتديه بكل سهولة وخفّة.
والى جانب غرفة النوم حمّامٌ صغير، جعل له سكة متحركة تمكّنه من الإنتقال من السرير الى كرسي الحمام ليستحم أو يقضي حاجته، وهو لم يغفل عن حاجات الحمام، لذلك زوّده بخزائن متحركة أيضاً. ولكن على نحو مدولب ومتحرك في آن، حتى يضع فيها أدوات الحلاقة والشامبو وغيرها من الأغراض من ثم يحضرها متى يشاء وبمفرده.
المميز في الحمام هو مغسلته المعلقة في الفضاء والمتحركة في آن. وعن ذلك قال: “إن أغراض الحمام أخذت مني وقتاً طويلاً، فالمغسلة مصنوعة من مادة الألياف الزجاجية أو Fibres Glasses وقد صممت قالبها بيدي واستغرق الأمر نحو ستة أشهر لتصبح جاهزة”.
أما اللافت للنظر فهي علبة التحكم الكهربائية، والتي وضعها على مقربة من سريره، ولعل طريقة تركيبها غير موجودة في العالم بأسره، فهي مثبتة على قطعة حديدية متحركة حسب الطلب وغير معلقة على الحائط. وعنها قال: “فكرتُ أنه قد يحدث، ويحصل مسّ كهربائي في المنزل، وقد أعجز عن تدارك الوضع فوراً، لكن بهذه الطريقة بإمكاني أن أتحكم بكهرباء المنزل فأفصل ما أريده وأضيء ما أشاء وأنا مرتاح في سريري”.
وكما في الحمام كذلك في المطبخ. فقد ألغيت جميع تمديدات المياه والقساطل الخارجية حتى تلك المتعلقة بالمغسلة وجميعها رسم لها خريطة داخلية وحوّلها الى باطن الأرض ووراء الجدران حتى لا تشكل عائقاً أمامه، كذلك ارتأى أن تكون خزانة الأكواب والصحون على شكل طاحونة هواء متحركة أيضاً حتى يتمكن من الوصول الى محتوياتها بسهولة”.
ربما الكلام عمّا اخترعه فادي الصايغ من أجهزة وآلات لا يفيها حقها، ولكن يكفيها فخراً أن من ابتكرها شخصٌ قد يكون بنظر البعض مجرد إنسان عاجز، لكنه أثبت أنه يتمتع بالموهبة وبالطاقات الإبداعية، حيث تسهم أفكاره دون أدنى شك في مساعدة ذوي الإعاقة في حياتهم اليومية. وبسؤاله عن إمكانية تعميم أفكاره ومساعدته لمن يطلب معونته أجاب: “إن الغرض من حديثي اليوم الى جريدة “البيان”، ليس لاستعراض إنجازاتي، وإنما لأنني أريد أن أوضح أن الإعاقة لا تعني نهاية الدنيا، وعلى الإنسان أن يتخطاها من خلال العثور على أجهزة تعوّضه عن الخسارة الميكانيكية والعضلية في جسمه، وهذه الأجهزة تعيد إليه نسبة كبيرة من استقلاليته”.
تابع: “وأنا من موقعي كناشط حقوقي في جمعية إتحاد المقعدين اللبنانيين، وهي جمعية نضالية تهدف لنصرة حقوق الأشخاص المعوقين، فقد ساعدت العديد من الأشخاص في هذا المجال حتى قبل ان أنجز منزلي، وأنا اليوم أحاول التأكيد أن تنفيذ هذه الآليات بالإمكان أن يتمّ بمجهود فردي، وحبذا لو كان مدعوماً من قبل وزارة الشؤون الإجتماعية وجهات ممولة تهتم بمساعدة الأشخاص المعقوين في جعل حياتهم سهلة”.
لا إحترام للفكر في لبنان
لا شك أن ما أنجزه فادي الصايغ في منزله يستحق التقدير والإهتمام وكان ليحظى بهما حقاً في بلدان تقدر المواهب الإبداعية لأبنائها، وكان لينال براءة إختراع وشهرة واسعة. ولكن هذا الواقع لا ينطبق على بلد مثل لبنان إهتمامات الأوصياء عليه محدودة وموجهة، وعن هذا الأمر يقول: “في لبنان الملكية الفكرية غير محفوظة، من ناحية أخرى هناك الكثير من الأشخاص الذين يتعاملون مع المعوق وفق أفكار خاطئة، فهو بنظرهم مجرد شخص عاجز، بينما الإعاقة ليست سوى خسارة لوظائف ميكانيكية في الجسم أو حسية إلخ… أما العجز فهو قرار يعود الى المعوق نفسه الذي عليه أن يقرر إما أن تتغلب عليه إعاقته أو ينتصر عليها ويتابع حياته متمتعاً بإستقلاليته قدر الإمكان. من هنا ضرورة ان يكون لدى المسؤولين وعيٌ كافٍ لقدرات الأشخاص المعوقين وتخصيص جزء من الموازنة لدعم برامج من شأنها تسهيل أجهزة مساعدة للمعوقين تعينهم على البقاء أشخاصاً فاعلين في المجتمع”.
على الرغم من فاعلية الآلات التي اخترعها فادي لتسهيل حياته وحياة كل الأشخاص المعوقين، إلا أنه في زمن الغلاء الفاحش والتكاليف الباهظة فقد تقف المادة عائقاً أمام معوق يعجز أهله عن دفع تكاليف صناعة جهاز أو تنفيذ فكرة، وفي هذا السياق لا ينفي الصايغ أن إجراء التجارب جعله في مكان ما ينفق الكثير من الأموال. ومع ذلك قال: “ربما هذه الأشياء قد تبدو مكلفة لمن ينفذها للمرة الأولى، ولكن تكرارها لن يكون كذلك، ومن ناحية أخرى فقد اعتمدت في معظم الآلات التي ابتكرتها على قطع سيارات قديمة أو إطارات كرسي وغيرها من المواد التي تُستخدم في إعادة التصنيع”.
وختم فادي الصايغ حديثه بالتوجه الى جميع الأشخاص المعوقين الذين سيقرأون عنه بالقول: “الى كل هؤلاء أقول “الدنيا ما خلصت”، والحلول موجودة لكن ينقصها إرادة منهم، فإما يكون قرارهم بالتعلق والاعتماد والاتكال على أشخاص آخرين، أو أن يكونوا مستقلين الى حدّ ما، وأنا حاضر لمساعدة كل من يقصدني”. [/COLOR]
[/B]