امرأة قيدتها الإعاقة، شكلٌ من أشكال الابتلاء لا يمكن إخفاؤه، فهي أسيرة مكانها، وعيون تنظر إليها، ولأداتها المساعدة، تُواجه بِتعابيرها وجوهاً ورموزاً مختلفة، ومتناقضة، فما بين الابتسامة العريضة المُشجعة والضُحكة الصفراء، وما بين الدعاء ومشاعر الحزن، وما بين أسرةٍ ميسورةٍ، ومجتمعٍ يرفض قبولها وتقبلها، تلك هي حالها وحكايتها.
من مدينةٍ أنجبت الشاعران إبراهيم طوقان، وفدوى طوقان، وقادة عظماء نقش التاريخ بصماتهم، ففي عام 1977 بدأت الحكاية، وأشرقت شمس الحياة من جديد، لتُعلن ولادة زهرةٍ من زهرات فلسطين، ألا وهي “رائدة فريتخ”، في بيت عربيّ قديم متواضع، من غرفتين صغيرتين، ومطبخ ضيق، وحمام، وغرفة للنوم، في حارة الياسمينة بِالبلدة القديمة في نابلس.
انتفاضة فَاجتياحٌ ثم إصابةٌ وشلل
وما بين عام 2000-2002 مع أواخر سنتها الدراسية الأولى في الجامعة، أُشعل فتيل انتفاضةٍ أُخرى، وذلك بعد جولة استفزازية لرئيس الوزراء الإسرائيلي إرئيل شارون واقتحامه للمسجد الأقصى، وبدأت مجازر قتل الأطفال الأبرياء، وإعدام الشيوخ والنساء، وهدم المنازل وتدميرها على رؤوس ساكنيها.
وتعرقلت مسيرة فريتخ التعليمية في أواخر تلك السنة، حيث تعرضت لإصابةٍ بليغة خلال الانتفاضة، وتحديداً في اجتياح نيسان الأسود عام 2002 لمدينة نابلس، حيث أنَّ تلك الإصابة قد استطاعت أن تُبعدها عن محيطها في الحياة بسبب العلاج، وعطلت مقدورها عن الحركة كَسائر البشرية حتى يومنا هذا.
وعن تفاصيل الحادثة، تُوضح “عائلةٌ، وأصدقاء اجتمعنا في المنزل بِحارة الياسمينة في البلدة القديمة لِنابلس، نُتابع بِألمٍ وحسرة مُجريات محاصرة مخيم جنين، وحصار الرئيس ياسر عرفات، ونترقب ما الذي سيحِل بمدينة نابلس في ظل عدوان نيسان”.
وكانت تلك الاجتياحات على المدن الفلسطينية، ضمن عمليةٍ اسمتها اسرائيل بـ”السور الواقي”، وهي أوسع عملية عسكرية لقوات الاحتلال منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية عام 1967، وجاءت رداً على تنفيذ عملية لفلسطينيّ قبل يومين من تلك العملية، في فندق “بارك” بمدينة نتانيا “أم خالد”، وقتل فيها ثلاثون اسرائيليا.
وفي الثامنة والنصف صباحا جرت الاستعدادات بما سيقوم به الاحتلال ضد المدن الفلسطينية، وتروي فريتخ كيف اصيبت عندما جرى انفجار، ولم تُدرك رائدة ما الذي حدث، ولكن الذي علمته فيما بعد أنها دخلت في غيبوبة، واستيقظت منها بعد حوالي تسع ساعات، وكانت قد أُصيبت بِإصابةٍ بليغة في عمودها الفقري، والبيت أصبح أنقاضاً، ومَن فيه اصيبوا فاستشهدت عماتاها، وبقيتا تحت الردم لأكثر من 15 يوماً، وأما رائدة فَبقيت تحت الأنقاض،فانقذها احد المارة كان عابراً من أمام المنزل بعد ساعات من الحادثة انقذها، وسمع صوت أنين تحت تلك الأنقاض، بعد أن فقدوا الأمل بِوجود آخرين أحياء، ومَن تبقى فهو في عداد القتلى.
وتتابع شريتخ انهم انتشلوها من بين تلك الأنقاض والردم، ونقلوها إلى مستشفى رفيديا، وهي لم تكن تعلم شيئاً بسبب غيبوبتها، وفي اليوم التالي استعادت رائدة جزءاً من حيويتها، واستيقظت منها، وكانت أول كلمات نطقت بها “شو يلي صار؟ وين أنا؟ وين أهلي وإخواني وعماتي؟ شو يلي صار فينا؟”، وما من مجيب.
رحلة العلاج
بعد 15 يوم، فُك الحصار عن البلدة، وعادت الناس لحركتها، وأخبرها أحد الأطباء أنَّها تُعاني من كسر بالعمود الفقري، وبِحاجة إلى عملية متخصصة، ولصعوبة إمكانية إجراء العملية في مستشفى رفيديا، فَتم التنسيق لنقلها إلى مركز فرح المتخصص للنخاع الشوكي في مستشفى مدينة الحسين الطبيبة بالأردن.
25 يوماً في مستشفى رفيديا، نُقلت بعدها إلى مستشفى مدينة الحسين، وهي لا تعلم شيئاً، ولا تعلم أن عمتيها قد استشهدتا، وأن البيت راح بالكامل، ولم يتبقَ منه شيئاً، ولكن الذي اختلف، أنَّها رأت أشقائها، واطمأنت عليهم، ولم يخبروها شيئاً، والأطباء هُناك أخبروها “جُل الفترة التي قضيتيها في مستشفى رفيديا لم تكن لصالحك، فأنتِ بحاجة ماسة للمباشرة بعملية سريعة، وتدخل طبي”.
وتُوضح “رحلة العلاج بدأت بِالأردن بِعملية جراحية، استغرقت وقتاً طويلاً تجاوز ستة ساعات، اعتقد أشقائي، وأقربائي بأنني قد انتقلت إلى رحمة الله، ولكنني خرجت منها بِخير وسلامة، وبدأت أتوقع كل ما هو إيجابي، بِأنني سوف أتعافى، وأعود للمشي على قدمي، وعلى ما يبدو أنَّه كان مجرد حلماً ليس أكثر، وتترجم عكسياً على أرض الواقع، وفعلاً لم يعُد بِمقدوري العودة للمشي كَسابق عهدي”.
والصاعقة التي لا تكاد تُنسى، وتسببت في ذرف دموعها، هي إحضار كرسي متحرك لها، وبِحشرجةٍ في صوتها، تستذكر ما تساءلت به وتقول “هاد لمين؟ وليش؟ مستحيل أقعد عليه، أنا رح أرجع أمشي، وأنط، وأجري، وأروح، وأعمل كل شي بدي ياه، وبخطر على بالي”.
وتستطرد “أقنعوني أن هذه الكرسي هي مجرد وسيلة لينقلونني من خلالها إلى غرفة العلاج الطبيعي والوظيفي، فَتقبلته بشكلٍ مؤقت، وخضت لعدة برامج تأهيلية وفسيولوجية، وخلال سنة كاملة بِمدينة الحسين الطبية، لم يتغير شيئاً، ولكن بدأت أستعيد قواي، وأُفكر قليلاً بعد فترات حزينة وكئيبة”.
وبدأت رائدة تخرج عبر هذه الكرسي، ولم تتقبله، والأيام تمُر، والشهور تمضى، وهي على الكرسي، وتقول “هُنالك شيء في حياة الإنسان يُسمى “الاعتياد”، يبدأ فيه الشخص بالاعتياد على شيء إجباري لا يُريده، أو يُريده”، فَتقبلت موضوع الكرسي على مضض، ولا تزال على مضض.
وانتقلت فيما بعد إلى مرحلة العلاج الطبيعي والوظيفي، حيث بدأت تشعر بِتحسن، فَيداها التي لم تستطع تحريكهما طوال فترة عام تقريباً، أصبح بِمقدورها تحريكمهما، وشعرت بأن هُنالك شيء جديد في حياتها، وصار لديها قابلية ودافعية لِأن تُكمل علاجها، فأكملت، وآن الأوان أن يستقر وضعها على حاله، وأن تستقر وتتقبل تلك الكرسي.
وجاءت اللحظة التي تطلب من رائدة الخروج من المستشفى، والعودة إلى بلدها، لاستكمال علاجها هُناك، وذلك بعض مُضي سنة في مستشفى مدينة الحسين الطبية، قائلةً “مرقت السنة بِصعوبات ومآسي، وفش لغة وحروف تعبر عنها”.
وكانت مرحلة صعبة جداً، فهي لا تستطيع أن تتنقل كأيِّ إنسانٍ طبيعي، واحتاجت إلى تنسيقٍ طويل، حتى يتم إدخالها إلى الأراضي الفلسطينية، وإيصالها لمدينة نابلس عبر سيارة الإسعاف، لأنَّها آمنت بأن ليس بِمقدورها العودة للمشي كَالسابق.
بيتٌ مُدمر وشقيقٌ يُستشهد
عادت رائدة إلى نابلس، وأخبرها شقيقها بأنَّ منزلهم أصبح ركام، وذلك بِفعل القصف الذي تعرض له البيت، وحال بي لأن تكون على ما هي عليه، فذهبت لتسكن في بيته، وبعد حوالي شهر بدأت حالتها تتدهور، بسبب عدم وجود علاج طبيعي ووظيفي، وأخبرها أحد الأطباء أن هُنالك مركز للعلاج الطبيعي يُسمى “مركز أبو رية” في مدينة رام الله.
ذهبت إلى المركز، وتلقت العلاج الطبيعي، وشعرت بالتحسن، ولكن أثناء تواجدها بالمركز، وبعد مكوثها ستة شهور، كانت تتابع التلفاز، فقرأت خبراً في الشريط الإخباري لإحدى القنوات، كُتب فيه “استشهاد شاب من مدينة نابلس”، فكان الخبر عابراً بدون إشكالية، لأنَّهم اعتادوا بِأن يكون هُنالك شهيد، وشهداء في اليوم الواحد، فَلم تهتم بالخبر كثيراً.
وتتحدث “تلاها بِقليل خبراً آخراً، كان محتواه “استشهاد الشاب مازن فريتخ في مدينة نابلس”، وهو شقيقي، فكان الخبر كالصاعقة بالنسبة لي، فَعُدت إلى مرحلة ونقطة الصفر، وكأنَّني لم أتلقَ العلاج يوماً، لِتُقرر في حينها أنَّها لا تُريد الاستمرار في مراحل العلاج على الإطلاق، وبِالفعل عادت إلى نابلس، ولم تُكمل علاجها.
فعائلة فريتخ التي قدمت للوطن شهيدتين في عام 2002، أكملت النصاب وقدمت شهيداً ثالثاً، وعدداً من الأسرى في عام 2003، فبعد مرور سنة على الحادثة، اغتالت قوات الاحتلال شقيقها مازن فريتخ، والذي استشهد في اشتباك مسلح في منطقة المخفية بنابلس، مُدافعاً عن وطنه، وتقول رائدة “استشهد أخي مازن، وكان من أقرب إخوتي لي، كم أحن إليه، وأشتاق لمحياه، فَمازن قدَّمَ روحه فداءً للوطن”.
ولم تنتهِ المعاناة هُنا فَحسب، بل من نجا من إخوتها من الموت، لم ينجَ من الاعتقال، واعتقل جيش الاحتلال جميع أشقائها على فترات، ما قبل استشهاد شقيقها بِأشهر وسنوات، وقُبيل استشهاده بِدقائق وساعات، حتى تكون طريقة للضغط على مازن بِتسليم نفسه، ولكنه رفض حتى ارتقى شهيداً، ولِيكون يوم استشهاده صاعقةً على العائلة، ودون أن يراه أي شقيقٍ له، أو يُشارك في جنازته.
وبِدموع تنساب من عينيها، تقول “الحزن والإرهاق، والسنين السوداء، وكل مشاعر الدنيا الحزينة التي تخطر على البال هي موجودة بي، ما الذي حدث ويحدث لا أعلم، فعندما يعود لي الأمل والروح أنتكس مرةً أخرى”.
ومن الجدير بِالذكر أن فترة اعتقال أشقاء رائدة طالت ما بين 2-3 سنوات، ليُفرج عنهم جميعاً على فترات، وآخرهم مع نهاية عام 2006، ومطلع عام 2007.
تحدَّت وعادت إلى الجامعة
وعادت رائدة إلى منزل شقيقها من جديد، وجاء لزيارتها مجموعة من الأصدقاء والزملاء الجامعيين، وقالوا لها “بدك تضلك بالبيت وما بدك تعملي شي؟ إنتي هيك بتصعبي الحياة”، وكان ردها “حياتي انتهت، أنا بدي أموت”، وفيما بعد فكرت رائدة قليلاً، وبدأ بالتفكير للعودة للجامعة، حيث أنَّه وعند إصاباتها عام 2002 كانت في نهاية سنتها الدراسية الأولى، ولم يتبقَ سوى الامتحانات النهائية في حينها.
وهي تمسح دموعها، تروي “بدأت بالتفكير جديَّاً كيف أعود للجامعة وأستكمل دراستي، وقررت أن أتحرك، فأمامي خيارين، إما الموت، أو الاستمرار بالحياة، وخرجت من المنزل لأول مرة وحيدة لحضور لقاء دعم لأهالي الشهداء في ديوان الياسمينة بالبلدة القديمة، وهو بجانب منزلهم الذي أصبح أنقاضاً”.
وتلا ذلك اللقاء، ذهابها إلى منزلهم، لتراه لأول مرة بعد تلك الحادثة، فهو أنقاض وأطلال، لم يتبقَ منه شيئاً، وذهبت منه جُل الحياة، وجُل ذكريات الماضي الجميل، فقررت الصعود إلى غرفة متبقية بالبيت، وساعدها أحد الأشخاص بالوصول إليها، بسبب الحجار المتراكمة، فوصلت إلى تلك الغرفة، وجلست نهاراً كاملاً، استعادت خلاله كل ذكريات المنزل، وذكريات الألم والمرار بِحياتها.
وتُوضح “عُدت إلى منزل أخي، وأعدت ترتيب أفكاري، وماذا أريد، وماذا سأفعل، فهذا ما كتبه الله لي، ولن أستطيع أن أٌغير شيئاً من قضاء الله وقدره، فَوضعت هدفي الأول، ألا وهو العودة إلى الجامعة، لعلها تكون سبيلاً لِأخرج مما أنا فيه”.
والتحقت من جديد بجامعة النجاح الوطنية، ولأنَّ إصابتها ومراحل العلاج منعتها من تأدية الامتحانات النهائية التي لم تُقدمها سابقاً، تعاطفت إدارة الجامعة معها، وقدمتهم بامتحانات غير مكتملة، وتجاوزتهم، متساءلةً “ضل ثلاث سنوات، كيف بدهم يمرقوا ويمشوا؟ كيف رح تكون رحلتي فيهم؟”.
وعندما خرجت من المنزل للجامعة في المرة الأولى، واجهت أكبر صعوبة، كون البيئة الجغرافية الجامعية غير مهيأة لِمن هُم مَن ذوي الاحتياجات الخاصة، فَوجهت عدة كتب لإدارة الجامعة، وقدَّموا لها كافة التسهيلات للتنقل ضمن مرافق الجامعة، وخصصت لها مكاناً لتستطيع التنقل عبره في الجامعة بسهولة ويسر، ما منحها دفعةً لتنطلق إلى الحياة، وتصنع من الأمل نقوشاً على جدار المستحيل.
واستأجرت بيتاً قريباً من الجامعة، حتى تستطيع الذهاب والعودة بِسهولة، وكان لها زميل يأتيها في تمام الساعة السابعة والنصف صباحاً، ويُساعدها للذهاب لجامعتها، وطيلة سنوات دراستها كان يُرافقها بِنفس المساقات، وبِابتسامةٍ ترتسم على وجهها، تقول “الله يسعده ويرضى عليه، إنسان رائع، ما بشوف أبداً مثله، وفعلاً البني آدم بثبت حاله بِقدراته وحضوره، فَشكراً يا الله على هالحنية يلي حنيتها عليّ بِهاد البني آدم”
وأكملت رائدة سنواتها الدراسية الثلاث، وأنهتهم، وتُوجت، وتخرجت من تخصص علم النفس التربوي، وهي الآن تعملُ مُرشدة نفسية في مديرية الصحة بِنابلس، وفي الأونة الأخيرة التحقت بِتخصص “ماجستير الإرشاد التربوي”، ولتُثبت للعالم بِأنَّه بِمقدورها السعي والنجاح والتميز.
المصدر: فراس أبو عيشة/ شبكة راية الإعلامية .