يحتل موضوع التصورات العقلية مكانا واسعا في الأبحاث المعرفية الحديثة، ورغم أن المصطلح ليس حديثا إلا أن التطور الذي شهده علم نفس النمو – وبالخصوص بفضل إسهامات بياجيه- سمح بدراسة وتوسيع المعرفة بهذا النشاط المعرفي، الذي نكوّن بفضله، عالما داخليا مصغرا عن العالم الخارجي، ونتمكّن من التلاعب بعناصره بحرية؛ ورغم الغموض الذي يكتنف التصور العقلي إلى يومنا هذا، سنحاول فهم معناه كيفية حدوثه، وكذا دوره في مختلف العمليات المعرفية، كتكوين المفاهيم.
1.مفهـوم التصـوّر
1.1. تعريف التصور
لغة: “تصوَّرَ الشيء: توهّم صورته وتخيّله؛ وتصور له الشيء: صارت له عنده صورة وشكل.(المنجد في اللغة والأعلام، 1975، ص440) والتصوُّر -في المنطق- إدراك المفرد أي معنى الماهية، من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات” (الكافي: معجم عربي حديث،1992، ص264)
أما في قاموس le petit robert 1، فالتصوّر représentation “عملية وضع [استحضار] شيء ما أمام الأعين أو العقل؛ وهو جعل موضوع غائب (أو مفهوم ما)، محسوسا بفضل صورة، شكل، رمز، الخ”. (Le petit robert 1, 1984, p1676) *[1]
اصطلاحا: أخذ هذا المفهوم عدّة تسميات في المؤلفات الأجنبية، وأهمها «la représentation» و «la conception »، كما أن التصور في بعض المعاجم يكون إما ترجمة لهذين المصطلحين، أو يعبر عن مفهوم تكوين الصور الذهنية؛ وفيما يلي عرض لبعض تعريفات هذا المفهوم:
مصطلح: «la représentation»
تعريفات من مجال المعرفة العامة:
تعريفات من مجال علم النفس وعلوم التربية:
– “إما العملية التي يتم فيها إعداد البدائل النفسية للأشياء أو الأحداث
– أو إلى هذه البدائل في حدّ ذاتها (صور، رموز)” * (Evelyne Caralp & Alain Gallo, Ibid, p166)
مصطلح «la conception »
أشار سامويل جوسنا و جون جاك دوبن S. Johsna & J.-J. Dupin إلى أن للتصوّر عدة تسميات، لدى علماء النفس وعلم النفس المعرفي ومن بينها: الاستدلال الطبيعي- الاستدلال الضمني- النماذج الضمنية- إطار المرجعيات البديلة- ما قبل تكوين المفاهيم- التصوّر “représentation”…الخ. (Samuel Johsna & Jean-Jacques Dupin, Ibid, p125) لكن هذين المؤلفين اختارا التصور بالترجمة “conception” في عرضهما لبعض التصورات الخاطئة للمفاهيم العلمية والرياضية، والعوامل المؤدية لظهورها لدى التلاميذ، من خلال نتائج بعض الأبحاث العلمية.
تعريفات من مجال المعرفة العامة:
تعريفات من مجال الفلسفة:
تعريفات من مجال علم النفس
Conception = F(PCORS)
(Problème) 😛 يمثّل المشكل، نقطة انطلاق التفكير؛
(Cadre de référence) :C الإطار المرجعي أو مجموعة المعارف الموجودة لدى التلميذ، والتي تسمح بصياغة المشكل؛
(Opération mentales) :O من وجهة نظر معرفية، هي الأدوات العقلية؛ (المفاهيم، العمليات العقلية) التي يملكها ويتحكم فيها التلميذ؛
(Réseau sémantique) :R الشبكة الدلالية أو تنظيم الكلّ انطلاقا من C و O، وتعطي معنًا للتفكير، للتصوّر وبحث التلميذ؛
(Signifiant ou la symbolisation) :S كل أشكال اللّغة، والتي تسمح بالتعبير عن التصوّر (كلمات، مخططات…)؛
من هذه المعطيات، يُعرّف التصوّر على انّه مجموعة الصور العقلية، والنماذج الموجودة لدى التلميذ، قبل أن يبدأ النشاط التعليمي. (http://www.rezozero.net/articles/giordan_enseigner.htm)
نلاحظ أن هذا التعريف يقتصر على التصوّرات الأولية فقط، وهي تصورات قد تكون خاطئة، تسبق انطلاق نشاط تعليمي ما؛ لكن بناء التصوّرات لا يقتصر على مرحلة معيّنة فعند بدأ درس ما، ولدى إثارة المشكل في أذهان التلاميذ، يسترجع كلّ تلميذ تصوّره الخاص بالموضوع ويستخدمها للإجابة على التساؤلات التي يطرحها في نفسه، أو التي يطرحها المعلم؛ لكنه يواصل بناء تصوّرات جديدة أو يعدّل من السابقة، مع كل معلومة جديدة يتلقّاها أثناء الدرس، وهنا أيضا قد تكوّن معرفة صحيحة كما قد تؤدي أخطاء التدريس بتأثير من التصورات الأوّلية، إلى اكتساب التلميذ لمعرفة خاطئة كليا أو جزئيا.
من خلال عرض تعريف جيوردان ودي فيشي للتصوّر، يتراءى لنا أن التعليم ليس سببا في ظهور التصوّرات الخاطئة، بل يتأثر بها وقد يزيدها سوءا فقط؛ لكن عددا من الدراسات أظهرت أن بعض التصوّرات الخاطئة ناتجة عن العملية التعليمية، ولم تكن لتظهر دون ذلك.
تتفق تعريفات التصوّر في عدد من النقاط، من بينها:
– عملية ذهنية؛
– ناتج تفاعل الفرد بالمحيط؛
– تكوين نماذج داخلية (مماثلة أم لا) لمواضيع العالم الخارجي؛
– استحضار ذهني لموضوع غائب.
التصور العقلي إذا، يعني الوظيفة المعرفية التي تسمح بتمثّل المثيرات الخارجية، على شكل صور، رموز، أو انطباعات نفسية داخلية ومجردة، بالاحتفاظ بكلّ أو بعض خصائص هذه المثيرات؛ كما يدل هذا المفهوم عن نواتج هذه العملية (الصور – الرموز – الانطباعات…) والتي تسجل في الذاكرة طويلة المدى، ويتم استرجاعها، والتلاعب بها في مواقف لاحقة.
ونظرا لاختلاف المعنى المستخدم للإشارة إلى مصطلح«conception»، سواء للدلالة على عملية تكوين أو استحضار المفاهيم، أو للدلالة على التصور الذهني، وللفصل في هذا المفهوم ارتأينا إلى استعمال مصطلح التصور باللغة العربية، مقابلا لمصطلح «représentation» في اللغة الفرنسية؛ كما سنستخدم مصطلح التصوير الذهني للدلالة على مفهوم التصور المعتمد على الصور البصرية (l’imagerie mentale)
2.1. التعريف الإجرائي لتصوّر مفاهيم الرياضيات
نشير في هذه الدراسة، لمفهوم تصور المفاهيم الرياضية، والذي يدلّ على الفكرة أو المعنى الذي يكوّنه التلميذ، عن المفاهيم المُدرّسة في مادة الرياضيات، سواء كانت التصورات الناتجة صحيحة أو خاطئة، وبغض النظر عن طريقة اكتساب هذه المفاهيم.
2. أنـواع التصـوّر
1.2. التصور المشبع بالصور: (التصوير الذهني) وهو النوع الذي تناولته الدراسات العلمية بكثرة، ويتعلق بتكوين الصور العقلية؛ ومن أهم الباحثين في هذا المجال: بايفيو وزملائه Paivio، غوردون بووير G.Bower، روجيه شيبار R.Shepard، رالف أبير R.Haberوغيرهم. كما تناولت دراسات بياجيه وإنهلدر موضوع الصور العقلية (représentation imagée) وأنواعها (Michel Denis, 1979, p.p 36-41). ويعتبر ميشال دينيس Michel Denis من بين أهم الباحثين في هذا المجال ، فقد تخصص في موضوع الصور الذهنية، ولا تزال دراساته ومؤلفاته، مرجعا أساسيا للدراسات الحديثة.
فيما يلي بعض تعريفات التصوير والصورة الذهنية:
– نظرا لتداخل مفهومي التصور والصور الذهنية، فسنقوم بتقديم المفهومين في إطار واحد، مع استخدام مفهوم التصور بغض النظر عن نوعه في هذا البحث.
للصور العقلية أشكال وأنواع عديدة أهمها:
* الصور الذاكرية: تتمثل الصور الذاكرية، حسب فيناك Vinacke، في تذكّر تجربة أو إحساس سابق، سواء كانت الصورة دقيقة أو أقل مطابقة للصورة الواقعية، ويصاحب هذه الصورة شعور بأنّها مألوفة؛ أو التعرف على حدث سابق، كما أنّها أقل دقة وتحتوي على تفاصيل أقل من الإحساس الأصلي. (Ibid, p59)
* الصور التخيّلية: يرى فيناك Vinacke أن صور التخيّلية هي أيضا صور من الذاكرة، لكن عوض أن تسترجع تجربة ماضية، أي أن تحمل نفس تفاصيل المُدرك الأصلي، فهي مزج بين عدّة تجارب سابقة. تتميز هذه الصور بمظهر غير مألوف، وتشبه نشاط الأحلام، لكنها لا تمثل أيّا من مكتسبات الفرد؛ وقد تكون بنّاءة وإرادية موجّهة، كما يحدث غالبا، في التفكير الإبداعي، أو لا إرادية وغير موجهة إلى أي هدف، مثل أحلام اليقظة. (Ibid)
مثال: يكوّن الطفل صورة عن شكل الدائرة انطلاقا من دائرة مرسومة في كتاب أو في صبورة القسم رآها أو درسها سابقا، وهذه الدائرة تحمل صفات معينة كاللون والحجم تتماثل والصورة الأصلية، إذا فهي من النوع الذاكري، لكن إذا قام الطفل بتكوين صورة عن الدائرة بلون مختلف لم يسبق له أن رآها به، فهذه الصورة من المخيلة فهي تحتوي على تجربتين مستقلتين: تجربة الدائرة مجردة من الحجم واللون، وتجربة اللون مجرد من الشكل. يمكن اعتبار هذه الصورة الخيالية من أبسط الأنواع إذ أن التغيير مسّ صفة واحدة فقط، ومزج بين تجربتين، وكلما نما الطفل زادت مرونته وقدرته على تخيّل صور جديدة أكثر تعقيدا وتجريدا؛ كما نجد فروقا فردية حتى بين الراشدين، وأقوى دليل على ذلك الاختلاف الموجود بين المبدعين في المجالات المختلفة (الفنون الجميلة، الفنون المعمارية…الخ) وبينهم وبين غيرهم من الناس.
تقسيم بياجيه وانهلدر Piaget & Inhelder: قسّم بياجيه وانهلدر، الصور العقلية إلى نوعين الصور المُعادة (المُكرّرة)، والصور التوقعية (المسبَّقة)، وهناك شبه كبير بين هذا التقسيم والتقسيم السابق:
* الصور المُعادة (المُكرّرة): تحدث عندما يكون راشد عادي قادرا على تخيُّل أشياء ثابتة (مثل الشكل الثماني، الطاولة)، أو الحركات ( الحركة الاهتزازية لنواس، الهبوط المتسارع لمتحرك، على سطح مائل)، أو تحويلات معروفة (كتقسيم مربع إلى مستطيلين متساويين)” (Ibid, p.p 63-64)
* الصور التوقعية (المُسبَّقة): تحدث عندما يستبق الفرد حدوث تغييرات جديدة بالنسبة له، من خلال الصورة (مثل طيّ ورقة مربعة الشكل إلى مستطيلين متقايسين مرّتين، وقصّ زاوية تقاطع الطيّات وتخيّل الشكل الذي يتحصّل عليه، قبل أن نقوم ببسط الورقة، والنتيجة هي ثقب واحد في المركز) (Ibid, p64)
تنمو الصور الذهنية في مراحل ولا تظهر مباشرة، وحسب دراسات بياجيه وانهلدر، تظهر الصور الذهنية في البداية على شكل صور ثابتة تمثل إعادة إنتاج داخلي لصور حسية، وهذا النوع من الصور يطابق النوع الأول (صور من الذاكرة) وتظهر في بداية مرحلة ما قبل العمليات وحتى عند ظهور الوظيفة الرمزية (عام أو عام ونصف إلى عامين). أما المرحلة التالية فتبدأ فيها الصور بالحركة والتغير وتصبح مرنة، إلى أن يتمكن الطفل من تخيّل مراحل تحول الشيء؛ ولا يظهر هذا النوع من الصور -حسب بياجيه وانهلدر- إلا انطلاقا من مرحلة العمليات المحسوسة (7الى 8 سنوات). لكن يرى دينيس Denis أن هذا التقسيم –رغم الجديد الذي أتى به- قد أهمل جوانب عدّة من وظيفة التصوير العقلي. (Ibid, p.p 64-65)
2.2. التصور القياسي (المماثل): يعرّفه باتريك لومير P. Lemaire بأنّه “تصور عقلي يحتفظ بخصائص مماثلة للتي توجد في المثير.” *[2] (Patrick Lemaire, Ibid, p496)
يقابل هذا النوع عملية تكوين ما سماه فيناك Vinacke بالصور الذاكرية، أو تكوين الصور المّكررة (حسب بياجيه وانهلدر) إلا أنّه لا يختص فقط بالصور الحسية للمثير، بل يتجاوزها إلى خصائص أخرى مجردة مثل الحالة النفسية المصاحبة للتجربة سابقا.
3.2- التصور المفاهيمي: يختص هذا النوع في تمثّل المفاهيم، وهو تصور يسمح بالتعرف على خصائص المواضيع الممثلة للمفهوم، ومنه فالتصور المفاهيمي هو الصورة أو الفكرة الداخلية المكونة عن المفاهيم (بعنصريه: الفهم والامتداد) وهو تصور يسمح بتصنيف الأشياء أو المواقف الجديدة، ضمن مفهوم محدد؛ وهو النوع الذي سنهتمّ به في هذه الدراسة.
يرى رولن وآخرون أنّ التصور المفاهيمي –وحسب عدّة دراسات- ينقسم إلى ثلاثة أنواع هي: التصورات الدلالية، التصورات الهيكلية والتصورات المُعجمية أو الفونولوجية (J.-R. Roulin et all, 1998, p94)
* التصور الدلالي: هي “تصورات ظاهرة أو خفية لدى الفرد، عن بعض الميادين، وهي تصورات مبنية على تجربة مُعاشة؛ وتمثل معرفة ساذجة أو يومية، تختلف عن المعرفة الخبيرة مثل المعارف العلمية.” (Ibid) فنفس المفهوم يمكن تصور معناه بطرق مختلفة من فرد إلى آخر، لكن علميا نفس الموضوع يقبل معنا واحد فقط صحيح، في تخصص معين؛ لذا يمكن القول أن التصور الدلالي، يعني تكوين تصور عن معاني المواضيع المحددّة في مفاهيم ومكوّناتها، وقد تكون هذه التصورات صحيحة أو علمية، أو تتميز بطابع الفردية.
* التصور المُعجمي: يتعلق هذا التصور باللغة، أي بالمفردات اللغوية والعلاقة بينها وكذا هيكلتها. (بتصرف Ibid, p96)
* التصور الهيكلي: (البنيوي) لا يقوم العقل فقط بتصوّر مكونات المفهوم وخصائص الشيء، بل ويتصوّر العلاقة بينها، وبنيتها فالدرّاجة الهوائية بالتصور الدلالي تعني وسيلة نقل أو تسلية، ذات عجلتين وبدون محرّك؛ وبالتصور الهيكلي يمكن التعرف على أجزائها (مقود– دواستين- عجلتين- مسنن كبير ومسنن صغير- سلسة معدنية- مقعد- كابح) وعلى بنيتها والعلاقة المكانية بينها (عجلة خلفية وأخرى أمامية- المسنن الكبير على الدواستين والمسنن الصغير في العجلة الخلفي-…الخ) (المعنى مأخوذ وبتصرف من Ibid, p.p 95-97). هناك علاقة وطيدة بين التصور الهيكلي والصور الذهنية، إذ يمكن تصور مسار طريق مألوف وكأننا نراه أمامنا، كما نكوّن صورة عن مواضع الأشياء بالنسبة لبعضها، في مكان ما.(بتصرف Ibid, p.p.102-103)
4.2- التصور المتعلق بالجمل المفاهيمية: الجمل المفاهيميةproposition، بمنظور كوسترمان Costermans، هي التقاء مفهومين أو أكثر تربطهم علاقات دلالية، ويلعب أحدها دور المُسند prédicat في حين تلعب باقي المفاهيم دور الحُجج arguments، فالأوّل مفهوم يحمل الصفات أو العلاقات الأساسية الرابطة بين باقي المفاهيم، أما الحجج فهي المفاهيم الممثلة لعناصر من العالم الفيزيائي أو المعرفي، وتربط بينها العلاقات المُشار إليها في المُسند. (Jean Costermans, 2001, p144 et p156) وترتبط هذه الجمل المفاهيمية باللغة ارتباطا وثيقا، إذ أن هذه الأخيرة تحدد العلاقات التي تربط مفهومين مستقلين عن بعضهما. والتصوّر المتعلق بالجمل المفاهيميةهو تصوّر مكوّن عن هذا التنظيم، وعن العلاقات الرابطة بين المفاهيم، والتي تسمح بالانتقال من مفهوم إلى آخر، من علاقة إلى أخرى، ولا يختلف هذا التصور كثيرا، عن التصور المتعلق بالشبكة المفاهيمية، فالشبكة أيضا شكل من أشكال تنظيم المعلومات في الذاكرة، لكن الرابط مختلف فالشبكات ربط بين مفهومين بصفة ما، أما الجمل المفاهيمية فتتدخل الصيغ اللغوية في تحديد العلاقة بينها بغض النظر عن صحّتها: فمثلا طائر الشحرور يرتبط بصفة الريش، وهذه العلاقة عبارة عن شبكة، بينما إذا قلنا أن طائر الشحرور (وهو العامل) لديه (وهي العلاقة) ريش (وهو المُعالج) فهذا تصوّر عن الجملة المفاهيمية “طائر الشحرور لديه ريش” (Patrick Lemaire, Ibid, p163)
والاختلاف بين التصور المفاهيمي وبين التصور المتعلق بالجمل المفاهيمية أو بالشبكات الدلالية، يتمثل في أن الأوّل يُعنى بالمفاهيم مستقلة عن بعضها، وفيها يتم تكوين تصور عن المعلومات التي يحملها كلّ مفهوم، أما النوعين الآخرين فيمثلان تكوين تصوّر عن العلاقات التي تربط بين هذه المفاهيم.
5.2. التصور الرمزي اللغوي: وهو النوع الذي حدده بايفيو في تقسيمه لأنواع التصور إلى نوعين الصور الذهنية والتصور الرمزي (اللغوي)، وهو تصوّر يعتمد على الوظيفة الرمزية اللغوية (سنتناوله في عرض نظرية بايفيو لاحقا)
6.2. التصور الحسي الحركي: هو الشكل البدائي للتصور، وهو يحمل تصورات حسية عن محيط الطفل دون تدخّل عليها، وتعتبر صور مطابقة للواقع. (سيتم عرضه لاحقا في مراحل نمو التصور في نظرية برونر)
3. بعض المواقف النظرية حول التصوّر الذهني
1.3. نظرية برونر:يرى برونر Jerome Bruner أن الطفل –خلال نموه- يمر بثلاثة مراحل من التصوّر هي:
E مرحلة التصوّر الحركي: تعتمد هذه التصورات على ما يقدمّه المحيط فقط، وهي تصورات حسية مبنية على النشاط الحركي للفرد.
E مرحلة التصوّر المشبع بالصور: يصبح الطفل قادرا على تكوين تصورات عن العالم على شكل صور، وهنا ينفصل النشاط العقلي عن التجربة الحقيقية، وهو يحدث دون حضور المثير، ويصبح التصوّر أكثر فأكثر مرونة مع ارتباط متضائل بالتجربة الحقيقية.
E مرحلة التصوّر الرمزي (اللّغوي): هذا النوع في الغالب –وحسب برونر- ذات طبيعة لغوية، والرموز اللغوية لا تشير فقط إلى الكائنات، بل أيضا إلى أقسام ومجموعات يمكن تنظيمها هرميا، ويمثل هذا التصوّر أكثر أنواع التصور تجريدا. (Michel Denis, Ibid, p125)
حسب هذا التقسيم، يرى برونر أن الصور الذهنية ليست تصوّرا رمزيا، وان كان يمكن أن تتخذ هذه الوظيفة في بعض الحالات، وهو يرى أن الصورة الذهنية شكل من أشكال التصور الملموسة والثابتة، كما أنّه يهمل إمكانية تحوّلها إلى أشكال أكثر تجريدا وديناميكية.
2.3. نظرية بياجيه وإنهلدر: يكوّن الفرد نسخا عن الواقع من خلال ثلاثة أنواع من المعارف التصويرية (التمثيلية):
E الإدراك: والذي ينشط فقط في حضور الشيء، وبوساطة المجال الحسي؛
E التقليد: بمعناه الواسع، والذي ينشط في حضور أو غياب الشيء، لكن بإعادة إنتاج حركي فعلي أو ظاهر؛
E الصورة العقلية: وتظهر فقط في غياب الشيء، بإعادة إنتاج مُستدمجة للموقف.
ويرى بياجيه وانهلدر أن الصور العقلية لا تُعنى مباشرة بالتغييرات التي يمكن إحداثها في الشيء سواء في الواقع من خلال النشاط الحسي الحركي، أو عقليا. (voir, Ibid, p.p.126-127)
تظهر الوظيفة الرمزية –وهي القدرة على استدعاء أشياء أو مواقف غير مُدركة آنيا، باستخدام الإشارات أو الرموز، وأهم عامل لظهور وتطور هذه الوظيفة هو نمو التقليد: تُقلّد -في بداية الأمر- المواضيع المرئية مباشرة، ثم يتم تقليد مواضيع اجتماعية غائبة، لكن التصوّر لا يظهر إلا انطلاقا من مرحلة إستدماج هذا التقليد الخارجي في صور عقلية داخلية؛ والاتحاد مع الوظائف الرمزية التي تكوِّن التصوّر، تصبح الصور العقلية أداة لاستذكار والتفكير فيما هو مُدرك. (voir, Ibid, p.p127-128)
ويرى بياجيه أن التقليد يؤدي إلى التصور، وهو تكوين صورة الشيء، ويمكن اعتباره شكلا من أشكال التقليد المُستدمج، أي تواصل عملية المواءمة، وبما أن التقليد الرمزي ناتج عن اللعب، فمن الضروري دراسة التقليد واللعب عند الطفل، لدراسة تكوين التصور الرمزي؛ وهذا ما نجده في كتابه :”تكوين الرمز عند الطفل”. (voir, Jean Piaget, Ibid, p12)
3.3-نظرية بايفيو Paivio يعتبر بايفيو التصوير العقلي والعمليات اللغوية هي “أنظمة ترميز” أو “أنماط التصور الرمزي” وتطور هذا الأخير راجع إلى التجارب المتعلقة بمحيط الفرد بالدرجة الأولى، ثم إلى اللّغة، وفي مواقف مختلفة قد يتم استدعاء الرمز اللغوي للشيء أو صورته العقلية، أو كلاهما في آن واحد، كما قد تُستدعى الصورة البصرية من الرمز اللغوي أو العكس، وقد تلعب الوظيفتين دور وسيط في مختلف النشاطات النفسية.
– كلما كان الموقف المتصوّر محسوسا، كلما تطلّبت التصورات المكونة صورا عقلية أكثر، لكن النشاط اللغوي يتم في الحالتين: المواقف المجردة والمواقف المحسوسة، مع زيادة فعاليتها في الحالات المجردة؛ وبذلك يمكن القول أن نمطي التصور الرمزي ينشطان في المواقف المحسوسة، إلا أن النشاط اللغوي يكون ذا أهمية كبيرة في المواقف المجردة.
– يقول بايفيو أن :”يشير مصطلحي الصورة والتصوير الذهني إلى تصوير محسوس، أي إلى تصوّرات ذاكرية غير لغوية لأشياء وأحداث ملموسة، أو إلى أنماط تفكير غير لغوية (كالتخيّل) أين يتم إنتاج والتلاعب بهذه التصورات بشكل نشط، من طرف الفرد. يأخذنا هذان المصطلحان –غالبا- إلى التصوير البصري، مع أنّ هناك، بالطبع، أنماط أخرى معنية بالتصوير (السمعية مثلا) (…). في هذا التعريف، نميّز بين التصوير والنشاطات الرمزية اللغوية، والتي تتطلب نشاطا ضمنيا للنظام اللغوي السمعي الحركي”
– يميّز بايفيو بين الأنماط الرمزية اللغوية وغير اللغوية، لكن يمكن للفرد أن يكوّن تصورات صورية بصرية عن الكلمات المكتوبة، كما يوجد نظام سمعي غير لغوي (تعلم النغمات الموسيقية مثلا) (voir, Michel Denis, Ibid, p.p.129-131)
و عن نموّ أنماط التصور الرمزي، وكباقي النظريات المعرفية، يرى بايفيو أن نمو الوظيفة التصورية يقابل نمو الوظائف من المحسوس إلى المجرد؛ وهو يرى أن:
– الصور العقلية تسبق ظهور اللغة؛
– نفس العمليات التي تسمح بتطور التفكير المجرد، تتدخل في الانتقال من التصور الصوري إلى التصور اللغوي، كما تدخل في النمو الداخلي لكل نمط: تنمو الصور العقلية من صور محسوسة وثابتة إلى صور أكثر مرونة وتغيرا، وتنمو الوظيفة الرمزية اللغوية من المحسوس إلى أشكال أكثر تجريدا؛
– لا يُستبدل نمط من أنماط التصور بأخرى وإنما يتمّ إضافتها إليها أو تعديلها، كما أن نمو مختلف الأنماط لا يتم تتابعا بل بالموازاة مع بعضها البعض، بل ويتأثر بعضها ببعض؛
– التجارب الإدراكية الماضية هي المنبع الأساسي لتكوين معظم الصور العقلية؛
– الصور العقلية هي البديل النفسي للأحداث المُدركة غير الحاضرة ،وهنا يختلف مع بياجيه وإنهلدر اللذان يعتبران أن صور الأشياء تتكوّن حسب الصيغ العقلية المتوفرة لدى الفرد، ولا تحمل بالضرورة نفس معالم الموضوع المُدرك، إذا هي ناتجة عن التقليد وليس الإدراك. (voir, Ibid, p.p.132-134)
رغم الاختلافات التي وجدناها بين النظريات، حول أنواع التصور ومراحل نموّها، فهناك نقاطا مشتركة بينها، كما أن جوانب عدّة من التصور لم يتم التطرق إليها بشكل كاف، سواء كانت معروفة أو تبقى غامضة إلى حدّ الساعة، والسبب راجع إلى صعوبة دراسة التصورات مباشرة. على العموم يمكن تقسيم التصور طوليا إلى أنواع تتدرج من التصورات المحسوسة إلى التصورات المجردة، أما التقسيم العرضي فيتحدد بنوع المواضيع المتصوّرة (تصورات حسية: بصرية- سمعية-..)؛ أمّا نموّها فيتبع نفس اتجاه مراحل النمو العقلي للطفل: أي من المرحلة الحسية الحركية إلى مرحلة التفكير المجرد.
4. كيف ندرس التصوّر؟ في كل الأبحاث التي تناولت موضوع التصوّر وخاصة الصور العقلية، لم تتم دراسة هذه الوظائف مباشرة، بل دُرست السلوكيات الظاهرة التي قد تمُثّلها، وهذا راجع إلى الطبيعة المجردة والمُستبطنة لهذه الوظائف المعرفية؛ هذا ما قد يشكك في صحة هذه الدراسات، وفي اختيار المهام المناسبة التي تنشّط وظيفة التصوّر. وتجدر الإشارة إلى أن أشكال عديدة من التصوّر، يصعب دراستها –إن لم نقل لا يمكن ذلك حاليا- بواسطة السلوكيات الظاهرة، وهذا ما أدى إلى بقاء هذه الوظائف غامضة جزئيا؛ كما أننا لا نلاحظ تغيرات نظرية كبيرة في هذا الموضوع على امتداد سنوات عدّة، عدا عن القفزة النوعية التي شهِدتها الدراسات المعرفية – متضمنة كذلك موضوع التصوّر- في بداية القرن الماضي، والتركيز الكبير للدراسات الماضية حول التصور العقلي يمتد من سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، إلى غاية يومنا هذا.
المواضيع الأكثر تناولا في أبحاث التصوّر هي الصور الذهنية بالدرجة الأولى، والتصور المفاهيمي ليأتي بعدهما التصوّر الرمزي و/أو اللغوي وغيرها، وتتجه الأبحاث الحديثة نحو دراسة أشكال أخرى للتصور، أو تطبيقاته في مجالات مختلفة، وبالخصوص تأثيرها ودورها في الوظائف العقلية والمعرفية الأخرى، كما أنّها تهدف إلى التحكم في بناء هذه التصورات مستقبلا، خاصة عند الطفل المتعلم.
المهام المستخدمة في دراسة التصوّر متنوعة ومن أهمها:
– المهام الذاكرية: تذكر مواضع الأشياء أو صفاتها في غيابها، سواء تمّ عرضها للمفحوص قبل ذلك وضمن التجربة، أو من خلال مواقف سابقة في حياته.
– المهام التخيّلية: تخيل مواضيع جديدة، تخيل تغييرات في صفات الأشياء أو موضعها واتجاهها، أو موضعها مقارنة بأشياء أخرى، وهذا اعتمادا على تعليمات من النوع اللغوي الشفهي أو الكتابي. (التصورات التخيلية تعتمد أيضا على الذاكرة، فلا ينشأ أي شيء من العدم، ووظيفة التخيل تتمثل في تغيير محتويات الذاكرة في مواقف جديدة كتركيب أجزاء مختلفة من الحيوانات مع بعضها، لتكوين مخلوق جديد لا نجده في الواقع، أو تغيير صفة ما كاللون)
ترجمة هذه المهام في استجابات متنوّعة:
– الاستجابة البيانية: كالرسم، التخطيط، التلوين أو الكتابة.
– الاستجابة اللغوية: ذكر صفات الشيء أو وصف مسار تنقل المفحوص إلى العمل أو المدرسة مثلا، تسمية الأشياء من خلال صفاتها المذكورة أو المكتوبة…الخ، وقد تكون الاستجابة اللغوية مباشِرة أو مُتضمنة في محادثة مع الفاحص أو في سياق طبيعي.
– الاستجابات التقريرية: يتم فيها اتخاذ القرارات بشأن المواضيع المطروحة، مثال: اختيار الصورة الفوتوغرافية المناسبة للمشكل المطروح، تقرير ما إذا كان موضوع غائب يتّسم بصفة ما أو لا، وقد تعتمد بعض هذه الاستجابات على اللّغة.
5. التصور والوظائف العقلية الأخرى
1.5. الصور الذهنية والإدراك: في الدراسات الأولى للصور العقلية (أبحاث كوسلين Stephen Kosslyn –أبحاث شيبار Shepard Roger) تمت دراسة علاقة الصور العقلية بالإدراك الحسي للمواضيع، ودلّت التجارب المعتمدة على قياس الزمن المستغرق لاستكشاف أو تدوير موضوع ما عقليا، إلى أنه كلما زادت تفاصيل أو درجة تعقيد التغييرات المُتطلبة، زاد الزمن المستغرق للاستجابة، وهذا دليل على أن الصور العقلية ذات طبيعة مشابهة لطبيعة الوظيفة الإدراكية؛ أما الدراسات الفيزيولوجية التي أجراها كوسلين S. Kosslyn وزملائه، تبيّن أن نفس المناطق الدماغية التي تنشط في عملية الإدراك -خاصة الإدراك البصري والسمعي)- تنّشط عند تنشيط الصور البصرية. (voir,Olivier Houdé et all, Ibid, p.p.201-204) ((voir,Jean François Richard, 1998, p.p.74-83
يتطلب كل نشاط إدراكي يهدف إلى استكشاف، تحديد الهوية أو إلى التسمية، تنشيط التصوّرات المخزنة في الذاكرة، وحتى النشاطات الحركية تولّد هذه التصورات، ويشير أوليفيي أودي وآخرون O. Houdé et all إلى ضرورة التفريق بين التصوّر الإدراكي (والذي ينشط مناطق قريبة من مناطق الإدراك في الدماغ) وبين التصوّر الدلالي (الذي يعنى بدلالات المواضيع ، والمنظمة في شبكات). (voir, Olivier Houdé et all, Ibid, p.p.347-348)
تجدر الإشارة إلى أنه أثناء، تنشيط عملية الإدراك، لا يتمّ فقط استرجاع التصورات المُخزنة في الذاكرة، من أجل الحكم على المُدركات والتعرف عليها، بل ويتمّ تكوين تصورات جديدة عن الموقف المُدرك، سواء تمّ تناوله سابقا (موضوع مألوف) -وبذلك ترسيخ التصوّر السابق أو إحداث تغيير فيه، كما يتم تسجيل الحالة النفسية المصاحبة لهذا الموقف- أو أن الموضوع جديد أو في سياق مختلف، وهنا يلعب التصوّر دورا هاما، وبالتعاون مع التصورات المُكتسبة سابقا، في تسجيل المعلومات الخاصة بهذا الموضوع.
2.5. الذاكرة: يعتبر التصور وظيفة تقوم على تسجيل المعلومات اليومية في الذاكرة، لكنّ ذلك يتم بصورة نشطة، فلا يتمّ نسخ المعلومات كما هي بل بتنظيمها وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى مصطلحات مثل: الشبكات الدلالية، الجمل المفاهيمة، الهندسة المعرفية…الخ، كما يتم تسجيل الانطباعات والحالة الانفعالية المصاحبة لها، ولأنّ هذه التصورات تتأثر بعوامل عديدة (كتنوّع سياقات الاكتساب) فالكثير منها مشوهة، ولا تعطي دائما صورة حقيقية للواقع.
لا يمدّ التصوّر الذاكرة بالمعلومات وتنظيماتها فقط، بل ويستمدّ منها المادة التي يكوّن بها تصوّرات جديدة أو موضوعة في سياقات جديدة، في ظروف لاحقة.
قام العديد من الباحثين ببناء نماذج عن البنية التصورية لتنظيم المفاهيم في الذاكرة، وتتمثل في الشبكات المفاهيمية ومن بينها: نموذج كولنس وكيليان Collins & Quillian – نموذج سميث وزملائه Smith et all–نموذج تفيرسكي Tversky– نموذج كولنس ولوفتس Collins & Loftus؛ ورغم تنوع الشكل الذي تنظم فيه المفاهيم من نموذج إلى آخر، إلا أنها تنصب حول فكرة واحدة: تصوّر العلاقات التي تربط بين المفاهيم، والممثلة بأسهم أو خطوط منحنية مثل ما هو مبين في الشكل (3)، ويكمن الاختلاف في طريقة تنظيم الشبكة : بشكل هرمي أي من المفهوم الرئيسي إلى المفاهيم الخاصة، أو بشكل عقد منتشرة في كل الاتجاهات (voir, Patrick Lemaire, Ibid, p.p.151-163)
3.5. التصوّر وتكوين المفاهيم: للتصوّر دور كبير في التعرف، تكوين وتخزين المفاهيم في الذاكرة، فعند مواجهة أي موقف يحمل المفاهيم، يقوم العقل بالتعرف عليها من خلال مقارنتها بالمفاهيم المكتسبة سابقا، أو يقوم ببناء تصوّر جديد إذاكان المفهوم جديدا أو مطروحا في سياق جديد، لكن التصوّرات الجديدة لا تبنى من اللاشيء، بل من مكتسبات سابقة، سواء كانت صحيحة أو خاطئة.
يرى بياجي أن التصوّر عامل مهم للانتقال من الذكاء الحسي الحركي إلى الذكاء المفاهيمي، وهذا الأخير ينمو تزامنا مع نمو اللغة، وهذا الانتقال يمثل النمو العقلي للطفل، ويتضمن تكوين التصوّر المفاهيمي.(voir,Jean Piaget, Ibid, p229 et 236)
الانتقال بين التصوّر والمفهوم يشبه الانتقال من المعرفة التلقائية إلى المعرفة العلمية، إذ يحمل التصوّر عناصر ذاتية تؤثّر على طبيعته، فلكل فرد تصوّر خاص به، أما المفهوم فهو ثابت نسبيا وهو معرفة علمية مشتركة بين عدد من الأفراد وفي مجال معيّن، فمفهوم الدائرة في الرياضيات واحد، لكن عدد تصوّرات الدائرة عند تدريسها للتلاميذ بعدد هؤلاء، بالإضافة إلى تصوّر المعلم.
4.5. التصوّر وحلّ المشكلات: لا يتعامل الفرد مع المشكل كما هو في الواقع وبموضوعية، وإنما يقوم بتصوّره، وقد يحمل هذا التصوّر ما يسمح بحلّ المشكل واتخاذ القرار؛(Jean Costermans, Ibid, p99)؛ ولأن التصورات فردية وغير موضوعية فهي لا تكون دائما صحيحة، فبعضها مشوّه مما قد يؤدي إلى الفشل في إيجاد حل منطقي للمشكل، لذا يجب العمل على تصحيح التصورات الخاطئة لدى التلاميذ عوض الإصرار على تلقين الحلول النموذجية آليا.
يرى كوسترمان J. Costemans أن حل المشكلات يستوجب تنشيط نوعين من الذاكرة: الذاكرة التقريرية، والتي تتكون من التصورات المسجلة، والذاكرة الإجرائية، والمكونة من مجموع البرامج المكتسبة. (Ibid, p137) لذا يمكننا القول أن حلّ المشكلات ليس إلا تطبيقا لهذه البرامج على التصورات المكتسبة سابقا لبناء تصوّر عن الحل.
5.5. التصور واللّـغة: للتصور علاقة تبادلية مع اللّغة، فعدا عن أنّه يمكن تسجيل التصورات على شكل مفردات لغوية -ويمكن الحديث أيضا عن التصور المُعجمي أو الدلالي- فيمكن تكوين تصورات عن المفردات اللغوية: كمفاهيم عامة، أو في إطار محادثة؛ ونفس الشيء بالنسبة للّغة المكتوبة مع اختلاف في طبيعتها.
يشير أودي و مييفيل O. Houdé & D.Miéville أنه يوجد لدى المتحدثين تصورات ليست فقط لموضوع المحادثة، بل ولأنفسهم، وللشخص الذي يتحدثون معه وظروف المحادثة (Olivier Houdé & Denis Miéville, 1993, p188)
أما فالون Wallon فيرى أن التصوّر تكوين لوسائط بين العالم الداخلي للفرد والمحيط الخارجي، ولا يحدث التصوّر الفعلي بدون الرمز، وهنا يظهر دور اللغة في تثبيت التصوّرات في الوعي. (http://www.rezozero.net/articles/giordan_enseigner.htm)
6. التصوّر، التعلّم والتعليم
التصوّر، التعلّم والتعليم: للتصوّر علاقة وطيدة بما يكتسبه الفرد وما يتعلّمه، فدون تصوّر الموضوع ل يمكن تعلّمه، كما أنّ تكوين التصوّرات في حدّ ذاته تعلّم عن المواضيع الخارجية؛ فالنظام التصوّري الذي يكتسبه الطفل تدريجيا: نظرته للعالم وتصوّره لذاته، ناتج عن تفاعله مع المحيط.
بدخول الطفل للمدرسة يواصل بناء تصوّراته وإن كان التعليم موجّها لأهداف محددة، فهذا لا يمنع أن يكون للتلميذ تصوّرا عن كل موضوع يتناوله.
يرى كل من جيوردان ودي فيشي –من خلال أبحاثهما- أن التصورات الأولية أو المسبقة التي يحملها التلميذ عن المواضيع المُدرّسة، غالبا ما تكون خاطئة وهي تؤثّر سلبا على اكتساب المعرفة السليمة. السلوكيات التي يتّبعها المعلّم اتجاه هذه التصوّرات متنوّعة فــ:
– إما أن يتجاهلها وكأنها طفيليات، وهذا ما يحدث غالبا؛
– إما أن يأخذها بعين الاعتبار ويستعملها كمحفّزات، يتعامل معها ضمنيا، أو يحث على التعبير عنها فقط؛
– إما أن يواجهها بمحاولة إقناع التلميذ بأنّه مُخطئ ويقدّم له المعرفة الصحيحة.
– أو –بما أن الطرق السابقة قد أثبتت عدم جدواها، وكما يقترح جيوردان- أن يستعين بها لمواجهتها وذلك بإحداث صراع داخلي حول هذه التصوّرات بالخطوات التالية:
ͦ التركيز على هذه التصوّرات والاعتماد عليها؛
ͦ تركها تنمو بشكل طبيعي إلى أن يتفاجأ المتعلّم بوجود خلل ما فيها؛
ͦ يساهم العمل الجماعي في إحداث الصراع، لذا يجب تكوين أفواج في القسم لحلّ المسائل والمشكلات التي يطرحها المعلم، فيتناقش التلاميذ فيما بينهم للخروج بالحلول، هذا يؤدي إلى إبراز تصوّراتهم وإحداث صراع بينهم، صراع ينتقل إلى ذهن كل تلميذ، فيبحث عما ينهيه؛
ͦ في هذه المرحلة فقط، يمكن التدخل لتغيير هذه التصوّرات واستبدالها بتصوّرات أصحّ، ونقنعه بذلك.
مقاومة التصوّرات للتطوّر والتغيير راجع –حسب جيوردان- إلى عوامل متنوّعة، من بينها:
* التلميذ تنقصه معلومات حول الموضوع
* لا يرغب في تغيير تصوّراته: إما لأن الموضوع لا يُحفّزه ولا يثير اهتمامه؛ وإما لأن النقاط المثارة من طرف المعلّم ليست نفسها التساؤلات التي يطرحها التلميذ في نفسه.
* لا يطرح المتعلم أسئلة حول الموضوع، لأنّه يضنّ أنّه مُلِمٌ به: بحيث أنّ لديه شرحا أو كلمات تجعله يعتقد ذلك، أو لأنّه يحمل معرفةً أثبتت فعاليتها في مواقف أخرى، فيكتفي بها.
* يحمل المتعلم أفكارا مُعدّة مسبقا وهي تمنعه من إدراك واقع الظواهر وإستدماج معلومة جديدة مناقضة لها.
* لا يملك المتعلم الأدوات المناسبة لاستدماج هذه المعلومات وفهم ما يُقدّم له (عمليات عقلية، الاستراتيجيات المناسبة،…). )
يجب الأخذ بعين الاعتبار كلّ هذه العوامل، أثناء التدريس، والطريقة المقترحة لذلك، من طرف جيوردان، تبدو أكثر نجاعة خاصة وأنّ التلميذ هو الذي يساهم في تغيير تصوّراته بمسار طبيعي وليس بالتلقي أو فرض المعرفة، لكن تطبيق مثل هذه الاستراتيجيات صعبّ جدا، فهي تتطلّب جهدا ووقتا أكبر لا يسمح به أي برنامج تعليمي، كما أن إحداث الصراع الداخلي بين التصوّرات ليس سهلا.
7. أهمية التصـور والصـور العقلية
يمكن تلخيص أهمية التصور والصور العقلية في النقاط التالية:
* حفظ المعلومات، وخاصة اللغوية منها؛
* تكوين، التعرف وتخزين المفاهيم والعلاقات بينها؛
* تسهيل فهم النصوص المقروءة بتكوين صور عن العلاقات المعقدة فيها؛
* تتدخل في التفكير وفي كل المهام التي تتطلب التعرف على صفات أو علاقات غير مألوفة؛
* إثارة، واسترجاع أحداث غير مُدركة بشكل مباشر، سواء كان الهدف تأدية مهام معينة، أو دون هدف محدد؛
* توقع وضعيات جديدة للواقع (التخيل)؛
* حل المشكلات الجديدة؛
* الإبداع والتفكير الإبداعي؛
* تصور الأشياء يسمح باستخلاص معلومات عنها حتى بغيابها؛
* يلعب التصور دور البديل في العديد من المواقف؛ (voir, Olivier Houdé et all, Ibid, p.p.202-203)
* تسجيل العلاقات الفضائية بين الأشياء، وفي هذا الصدد يقسّم بيرن Byrne التصورات الفضائية إلى نوعين: تصورات من نوع الشبكة وفيها يتم الاحتفاظ بالعلاقات الطوبولوجية، والتصورات الاقليدية والتي يتم فيها الاحتفاظ بالمسافات (Jean François Richard, Ibid, p77)
* يسمح التصوّر بأداء مهام عقلية مثل: الاستكشاف- التلاعب بالمواضيع- إحداث تغييرات- القلب والتدوير- المقارنة- الترتيب- إنشاء الخرائط… وهذه النشاطات تشبه التي يؤديها الفرد على الأشياء الحقيقية (Ibid, p.p 74) ويركز علماء النفس المعرفي ،ومن بينهم بياجي، على دور اللعب في مرحلة الطفولة، في إنماء القدرة على التلاعب الذهني بالأشياء وبمرونة بعد تمثُّل نشاطات اللعب داخليا.
8. العوامل المؤثرة في تكوين التصورات العقلية
1.8. العوامل الثقافية: يرى بياجيه أن التصورات تتأثر كثيرا بالعنصر الاجتماعي من خلال الأساطير، التقاليد والمواقف الاجتماعية وذلك يحدث عاجلا أو آجلا (voir, J. Piaget, Ibid, p229-230) ،وينتج عن هذا التأثير ظهور ما يسمى بالمعنى القومي وهي تصورات منتشرة على نطاق واسع، وتتميّز هذه التصوّرات بترسّخها وصعوبة تصحيحها إن كانت خاطئة.
من ناحية أخرى يمكن ملاحظة أنّ نفس الموضوع قد ينظر إليه بشكل مختلف من منطقة جغرافية إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى، فهناك مواضيع ينظر إليها بشكل ايجابي لدى بعض الشعوب، بينما تعتبر سلبية وذات دلالات مختلفة في شعوب أخرى، ويكن أخذ مثال عن المعاني المعطاة للألوان: ففي بعض الشعوب الأسيوية يمثل الأبيض لونا للحداد بينما يأخذ اللون الأسود نفس المعنى في بلدان أخرى.
2.8. التعلم: يدخل التعلم ضمن العوامل الاجتماعية، لكن ذو طبيعة مختلفة وأكثر تنظيما، فالطرق المختلفة التي تدرّس بها مختلف المواضيع، يمكن أن تحدّد طبيعة التفكير لدى التلاميذ، ويتم بذلك تناول المواضيع وفقا للنماذج المتناولة في المدرسة، كما أن المدرسة تلفت انتباه التلاميذ إلى أفكار ومكوّنات لم يكونوا لينتبهوا إليها في حياتهم اليومية دون تمدرس،وعليه فالتصوّرات تتأثر بالعملية التعليمية، كما تتأثر بتصورات المعلم نفسه
3.8. العوامل النفسية والانفعالية: للتكوين الانفعالي للفرد أيضا تأثير في التصوّرات التي يكوّنها عن العالم الخارجي، ويختلف هذا التأثير تبعا لنوعية المواضيع أو المفاهيم المتناولة، وتنوع المواقف، فنحن نكوّن تصوّرا عن موضوع ما تبعا لتجاربنا السابقة وحياتنا الانفعالية، ولمرحلة الطفولة التأثير الأكبر على التكوين النفسي الانفعالي لدينا بذلك على التصوّر.
4.8. العوامل النمائية:للّعب دور هام –كما أشار إليه بياجيه- في تكوين التصورات، فبالتلاعب بالأشياء الحقيقية (تقليبها، تفكيكها وتركيبها، التلوين وحتى تكسيرها) يساهم في تكوين صور عن هذه الأشياء، وكلما زادت التغيرات المحدثة في “اللُّعبة” والتلاعب بها، زادت مرونة التلاعب بها عقليا من خلال صورها العقلية، كما يساعد ذلك في زيادة دقة وعدد التفاصيل التي تمثل صفات الشيء؛ لذا من المهم في السنوات المبكرة للنمو، أن نضع الطفل في محيط مليء بالمثيرات والتجارب من مختلف الأنواع، لزيادة المادة الخام لبناء الصور الذهنية، وكلما سمح للطفل بالتلاعب بصفات الأشياء (كتفكيك الألعاب) كان التلاعب العقلي بصور هذه الأشياء وغيرها، أسهل وأكثر مرونة.
في هذا السياق يأتي الحديث عن علاقة الفرد بالشيء (أو الموضوع) فدراسات مثل التي قام بها أغبورن ومارياني Ogborn & Mariani أثبتت أن هذه العلاقة تؤثر على تكوين التصورات. (Samuel Johsna & Jean-Jacques Dupin, Ibid, p132)
كما يرى بياجي أنّ العلاقة بين الفعل والحركة (دفع شيء لنقله) تؤدي إلى مبدأ السببية، مفهوم الشيء، ومفهوم الفضاء والزمن وهي أنماط أساسية في التفكير، كما أنّها تسمح بتحليل الواقع من خلال أسئلة من النوع: -مما هي مصنوعة هذه الأشياء؟ -ماذا يمكن أن نفعل بها؟ -ماذا ينتج عن ذلك؟ (Ibid) وهذا يعني أنّ طبيعة نموّ العلاقة بين الشيء والفرد، من خلال الفعل، تحدّد وبشكل كبير، طبيعة تصوّراته.
5.8. السياق: إن تنوع السياقات التي تتكوّن فيها التصوّرات، أو يتمّ استرجاعها وتطبيقها فيها، يِدي إلى اختلاف التناولات الممكنة لنفس الموضوع، سواء لدى الفرد نفسه، أو من شخص إلى آخر.
خلاصة يمكن القول أنّ الفروق الفردي في التصوّر راجع إلى عوامل فردية كالنمو النفسي والانفعالي، العلاقة المكونة بين الفرد والعالم الخارجي (وخاصة العالم المادي)، والسياقات المتنوعة التي يطرح فيها التصوّر؛ بينما يعود التشابه بين تصوّرات فئة معينة راجع إلى العوامل الثقافي الاجتماعية التي ينتمون إليها، كما للعملية التعليمية دور في ذلك.