على الرغم من دراسته لعدة قرون، لا يزال هناك الكثير لم يُعرف عن الدماغ البشري، دماغ الإنسان الأصم على وجه الخصوص ما زال لغزا في حد ذاته لأن الصم يستخدمون
طريقة معينة في الإدراك والتواصل مع الآخرين تختلف في ماهيتها عن تلك التي يستخدمها السامعون، يعتبر بيتر هاوزر من مؤسسة روتشستر للتكنولوجيا رائدا في تحليل
الدماغ البشري للصم، وكيف يختلف في طريقة عمله عن دماغ الإنسان الطبيعي، وما تأثير لغة الإشارة على عملية الإدراك.
يقوم هاوزر وهو محلل نفسي وأستاذ مشارك في لغة الإشارة الأمريكية والشفوية في وزارة التربية والتعليم، وهي جزء من المؤسسة الوطنية التقنية للصم، بعمل تحقيق عن الطريقة التي يقوم فيها الدماغ البشري بالتكيف مع عوامل الإدراك وفق معايير جديدة، بمعنى أخر، كيف يؤثر الصمم في طريقة عمل الدماغ؟
يقول هاوزر: «نحن لا نعلم إلا القليل عن العقل البشري، ولكني أحاول من خلال أبحاثي أن أكشف عن الأمور التي يدركها العقل البشري بما فيه من صفات خلقية، والأمور التي يدركها من خلال التكيف الذاتي، وكيف يؤثر الصمم أو لغة الإشارة في هذا التقسيم».
يعتقد هاوزر أن الاختلاف بين طريقة عمل دماغ الإنسان الأصم وطريقة عمل دماغ الإنسان الطبيعي له أهمية كبيرة في تشخيص وعلاج العديد من الأمراض.
«لنفترض أن شخصا أصم أصيب بجلطة، فإن ذلك سيؤثر بالتأكيد على طريقة تواصله مع الآخرين» يضيف هاوزر فيقول: «لأن الشخص الأصم يتواصل مع الآخرين+
بطريقة مختلفة ويستخدم في ذلك أجزاء مختلفة من دماغه، فإن أعراض الجلطة لديه ستختلف عن الإنسان السامع وكذلك استجابته للعلاج ستختلف أيضا».
«يعتبر بيتر هاوزر من الباحثين الأوائل على المستوى الوطني في عمل مقارنة بين عقل الإنسان الأصم والطبيعي من ناحية الوظائف المختلفة» حسب ما يقول دافني بافيلر وهو بروفسور في علم الإدراك والعقل البشري في جامعة روتشستر، حيث عمل مع هاوزر لما يقارب العقد من الزمن: «إن هاوزر يقود البحث الذي سيحدد المواصفات التي تؤثر على الوظائف التنفيذية وهي مجموعة من المهارات التي لها علاقة بالأداء الأكاديمي لدى الشخص الأصم الذي يمر في طور النمو».
معظم الدراسات العملية السابقة التي أجريت على الصم ركزت على تعديل أسلوب التعلم لمحاكاة الطريقة التي يستخدمها الأشخاص السامعون، بينما يركز هاوزر في أبحاثه على الصم أنفسهم، كيف يتعلمون، كيف يفكرون، وكيف تعمل عقولهم وكيف تستفيد من المعلومات.
لقد قام هاوزر من خلال التعاون مع المؤسسة الوطنية للعلوم في جامعة جالوديت ومركز التعليم البصري وعلوم الإدراك ومختبر جامعة روتشستر للدماغ والبصريات بتطوير اختبار شامل يمكن من خلاله تحليل عملية الإدراك لدى الصم والسامعين. تتضمن أبحاث هاوزر دراسات في علم البصريات، وطريقة النظر بالتركيز على الأشياء، والوظائف التنفيذية، الجزء الخاص من الدماغ المسؤول عن السلوكيات والإدراك المعرفي.
يقوم فريق العمل الخاص بهاوزر والذي يضم طلاباً وأعضاء في هيئة التدريس من المؤسسة الوطنية للعلوم في جامعة جالوديت ومركز التعليم البصري وعلوم الإدراك ومختبر جامعة روتشستر للدماغ والبصريات بجمع معلومات عن أفراد تطوعوا للمشاركة في هذه الدراسة من جميع أنحاء العالم، ويقوم الفريق بعمل تقييم كتابي لكل حالة وترجمته إلى لغة الإشارة، وقد شارك أكثر من 1000 متطوع في هذه الدراسة لحد الآن.
يقول هاوزر: «نحن نقوم بإجراء هذه الاختبارات عندما نذهب إلى المدارس ومخيمات الأطفال الصم والمؤتمرات الأكاديمية في جميع أنحاء العالم».
تظهر النتائج الأولية لهذه الدراسة التي يتم تمويلها في المقام الأول من قبل المؤسسة الوطنية للعلوم والمعاهد الوطنية للصحة، وجود اختلاف واضح بين الطريقة التي يعالج فيها الصم المعلومات والطريقة التي يتبعها السامعون في ذلك.
في واحد من المشاريع، درس فريق هاوزر الانتباه البصري والمكاني لدى الأطفال في المرحلة الابتدائية وبين الكبار لمقارنة الاختلافات فيما بينهما، فوجدوا أن الأطفال الصم الذين ينتمون إلى المرحلة الابتدائية يؤدون أداء مماثل لأقرانهم السامعين ولكن، مع التقدم في العمر، فإن هذه الاختلافات في الاهتمام تزداد اتساعا، فيصبح المراهقون وصغار البالغين الصم أكثر انتباها للأحداث الهامشية، يفسر هاوزر ذلك بالقول: «يبدو أن هذه القدرة على التكيف مهمة جدا وهي التي تجعل الأفراد الصم أكثر وعيا بما يجري حولهم، من أجل زيادة تعلمهم من الأمور العرضية، ومنعهم من المخاطر».
يقول هاوزر: إنه من المعروف لدى الناس بأن الصم يميلون إلى الاستفادة من الدلائل التي يستقونها من البيئة المحيطة بهم عن طريق حاسة البصر أسرع من السامعين لأن لديهم حواس أقل للاعتماد عليها.
إن «الاهتمام هو المؤشر الرئيسي النفسي لكيفية انتقال المعلومات من الحواس إلى الدماغ»، ويضيف: «من خلال إظهار كيفية عمل هذا بشكل مختلف في الصم، يمكن أن نساعد في تطوير التقنيات التي تعزز التعلم البصري».
لقد قام هاوزر بالمزيد من الأبحاث عن التحليل البصري عن طريق مقارنة القدرة على القراءة لدى الطلاب الصم والطلاب السامعين، حيث قام فريقه بإجراء التجربة على مجموعة من الأطفال ما بين سن الثامنة والسادسة عشرة ينتمون إلى أربع دول مختلفة ويتحدثون خمس لغات مختلفة، ركز الاختبار على القدرة على التعرف على الأحرف والكلمات، وعلى كيفية التعامل مع المعاني من خلال معالجة الجمل المفيدة، شارك في هذا المشروع أطفال صم من آباء صم، ومن آباء سامعين، بالإضافة إلى أطفال سامعين، وأطفال يعانون من صعوبة في القراءة.
تشير النتائج الأولية إلى أن تعلم لغة الإشارة في سن مبكرة وقدرة الأهل الصم على تربية طفل أصم تساعد على جعل هذا الطفل قادرا على القراءة بنجاح بغض النظر عن نوع اللغة أو قوانين الإملاء، حيث يستطيع هؤلاء الأطفال اكتساب مهارات القراءة في سن مبكرة حالهم في ذلك حال الأطفال السامعين، مما يعني أن الصمم لا يشكل أي عائق إمامهم فيما يتعلق بالقراءة، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن ينشأ هؤلاء الأطفال في بيئة لا تراعي مهارات التعلم البصري، ويعتقد هاوزر أن الأشخاص الماهرين في القراءة من الصم يستخدمون جزءا مختلفا من الدماغ لمعالجة عملية القراءة: «تعتمد الأساليب التقليدية لتعليم القراءة والفهم على الطريقة التي يستخدمها الأشخاص السامعون ولا تأخذ في الاعتبار بالضرورة الحاجات البصرية للطلاب الصم» ويضيف هاوزر: «تشير أبحاثنا إلى أن الصم لا يتعلمون القراءة بسرعة أقل من السامعين ولكن بشكل مختلف».
«السيطرة على الانتباه، والسيطرة العاطفية، والسيطرة على الانفعالات والذاكرة وتنظيم الأفكار، وتخطيط الأفكار، هذه كلها عناصر الوظيفة التنفيذية التي تظل تتطور في الدماغ حتى سن البلوغ والمراهقة»، ويقول هاوزر: «يبدو أن اللغة تشكل عنصرا ضروريا لتطوير وظيفة تنفيذية، ولكن بالنسبة لغالبية الأشخاص الصم الذين ينشأون في أسر السامعين، يتأخر تطور اللغة».
يعتقد هاوزر أن عدم اكتمال الوظيفة التنفيذية أثناء النمو يمكن أن يكون له أثر سلبي على التعلم والتحصيل الدراسي، حيث قام فريقه بإجراء سلسلة من التجارب، وذلك باستخدام مشاركين صم وسامعين، للتحقيق في أثر تعلم اللغة على التنمية التنفيذية.
وأضاف: «المشكلة التي واجهناها عند بداية هذا البحث هو عدم وجود اختبارات قياسية لقياس طلاقة لغة الإشارة للأفراد الصم» ويستمر فيقول: «نظرا لهذا، طَور فريق العمل اختبارا حساساً للغاية من الكفاءة في لغة الإشارة الأمريكية، حيث يمكن أن تدار بسهولة في فترة قصيرة من الزمن، لقد وضع هاوزر بروتوكولا من الإدارة يعتمد على الانترنت، بحيث يمكن أن تجرى الاختبارات عن بعد، ثم يتم إرسال إجابات المشاركين إلى مختبره لتحليلها.
يتم حالياً استخدام هذا الاختبار في العديد من الأمور النفسية واللغوية والمعرفية والدراسات والأبحاث في علم الأعصاب في الجامعات في جميع إنحاء العالم. «إن إنشاء هذا الاختبار قد مكن الباحثين أخيرا من تجربة الأسئلة البحثية المتصلة بتأثير مهارات لغة الإشارة على التعلم والإدراك» يضيف هاوزر، وقد تم بالفعل تكييف الاختبار لقياس لغات الإشارة الألمانية والبريطانية ويأمل هاوزر في زيادة توسيع نطاق استخدامه في المستقبل.
على رأس جهوده البحثية، سعى هاوزر إلى تعزيز الفهم حول المتعلمين الصم وتعزيز فرص التعليم والتوعية في مجتمع الصم، وهذا يشمل الجهود المبذولة لنشر المعلومات عن إدراك الصم بين أفراد المجتمع وفي الأوساط العلمية والأكاديمية، فضلا عن دعم الجيل القادم من الباحثين.
وقد قدم هاوزر أبحاثه في العديد من المؤتمرات الدولية، وكان بمثابة مقدم ومعلم للشباب في مؤتمر القيادة للرابطة الوطنية للصم، وشغل منصب مندوب قمة اختبار المساواة، التي سعت إلى ضمان أن التجارب التربوية ستكون أفضل للمتعلمين الصم، كما أنه شارك مع البروفيسور مارك مارتسشرك، من المؤسسة الوطنية التقنية للصم في تحرير كتاب إدراك الصم الذي نشر في 2008: الأسس والنتائج، وكتاب كيف يتعلم الأطفال الصم في 2011: ما يحتاج لمعرفته الآباء والمعلمون، والذي نشرته مطبعة جامعة أوكسفورد.
وقد عمل مع هاوزر أيضا العديد من الطلبة من جامعة روتشستر للتكنولوجيا، والمؤسسة الوطنية التقنية للصم، والمؤسسات الشريكة لها لتعزيز الجهود البحثية وتعزيز الحماس للموضوع ككل.
إرين سبورجون، التي استمتعت بحماس هاوزر لموضوع البحث عندما كانت تدرس في صف علم النفس الذي كان يدرسه هاوزر لينتهي بها المطاف بالحصول على الماجستير من المؤسسة الوطنية التقنية للصم، وعمل أبحاثها في مختبر دراسات الصم مع هاوزر،عملت أيضا على مشاريع عدة في حقل الإدراك وسافرت إلى تركيا في عام 2010 لعقد اجتماعات دولية مع فريق البحث. سبورجون تتابع حاليا الدكتوراه في اضطرابات اللغة والتواصل في برنامج مشترك بين جامعة كاليفورنيا في سان دييغو وجامعة سان دييغو الحكومية.
«إن فرصة العمل مع هاوزر كأستاذ وباحث مشارك كانت واحدة من أكثر التجارب قيمة لي في التحضير لشهادة الدكتوراه»، كما تقول: «إن الطلاب الذين يبدون اهتماما في مجال البحوث الخاصة بالصم محظوظون للعمل مع عضو ذي دراية واسعة ويحظى باحترام كبير في المجتمع العلمي كهاوزر».
مع استمرار البحوث في جامعة روتشستر للتكنولوجيا والمؤسسة الوطنية التقنية للصم، يعتقد هاوزر بأن إرثا من المعرفة يجري بناؤه للحصول على علم إدراك الصم، والتعليم الخاص بهم، وزيادة التوعية بدراسات الصم وبحوث لغة الإشارة.
«أملي هو جلب المزيد من الناس إلى البحث من الأساتذة المساعدين والمشاركين، وتعليمهم، وخلق بيئة ملائمة تكون مختبرا للصم حيث يستطيع الناس أن يأتوا ويتعلموا كيفية إجراء البحوث» يضيف هاوزر.