السابعة صباحًا، السماء صافية، زقزقة العصافير ترسل الابتسامات لشفاه وعيون الرجال والنساء، الكل يتأهب للرحيل، صفارة قطار أسيوط ترتفع، الكل يسرع ليلحق بالقطار، تعدو ذات الـ18 عامًا، لا تكاد تطأ قدمها داخل العربة حتى انزلقت أسفلها، تغير الجو في لحظات، الصرخات تعلو لكنها لا تصل لسائق القطار الذي لا يستطيع سوى استكمال طريقه، رحل القطار تاركًا بين قضبانه فتاة جميلة حياتها انقلبت رأسًا على عقب في دقائق معدودة، حملها أناس إلى أقرب مستشفى، وهناك علمت الفتاة أنها انضمت إلى فئة جديدة تسمى “ذوي الإعاقة”، فحادثة القطار أدت إلى بتر قدميها، وملازمة كرسي متحرك سيكون رفيقها منذ هذه اللحظة.
عالم جديد دفُعت إليه “رشا إرنست”، ضحية أحد حوادث القطارات في مصر، صعوبات عديدة واجهت “رشا” إلا أنها تغلبت عليها، مقولتها الدائمة التي تؤمن بها «أن التقدم في الحياة لا يحتاج إلى أقدام إنما حب للحياة وإيمان بالوجود»، من هذه القوة استطاعت المضي قدمًا في حياتها الدارسية حتى حصلت على ليسانس الآداب تخصص اللغة الفرنسية في جامعة أسيوط، رشا الآن تعمل مسئولة الفنون والثقافة بالمركز القومي لشئون الإعاقة، ألتقت بها «البديل» واقتربنا أكثر إلى فئة هُمشت في مصر لسنوات، في حين أن هناك دولً قدرتهم إنسانيًا ومنحتهم حياة كريمة.
على عكس كثير من ذوي الإعاقة، رفضت رشا مسميات “ذوي الاحتياجات الخاصة، ذوي القدرات الخاصة، متحدي الإعاقة”، وغيرها من الأسماء التي تطلق على هذه الفئة، فهي ترى أننا كي نقف على مشكلات وقضايا ذوي الإعاقة علينا أولًا الاعتراف بالمشكلة كي نواجهها، بمعنى أن “ذوي الاحتياجات الخاصة” يمكن أن نطلقها على شخص تعرض لحادث ويحتاج مثلًا لـ”مصعد” لفترة ما وبانقضاءها تنتهي حاجته للمصعد، على عكس “ذوي الإعاقة”- المسمى الذي فضلت رشا اطلاقه على هذه الفئة- إذ ترى أن هذا المسمى يعترف في شكل صريح أن لدينا أشخاص يعانون من إعاقة دائمة ويحتاجون لخدمات من نوع خاص، لذا علينا أولًا تحديد المسمى بشكل علمي كي نستطيع مواجهه المشكلة.
أن تصير فردًا من ذوي الإعاقة أمر محتمل في مصر في أي لحظة، من هذا المنطلق على الدولة أن تستيقظ وتعمل على تقليل نسبة الإعاقة، ربما تسأل عزيزي القارئ كيف؟، وفقًا لآخر إحصائية قدمتها منظمة الصحة العالمية عام 2006، نجد أن مصر بها 7 مليون من ذوي الإعاقة، تقع شريحة كبيرة منهم نتيجة لحوادث الطرق، علاوة أن هناك أسباب أخرى كانحدار مستوى مواصفات الأمن الصناعي في مصر، وكثرة زواج الأقارب الذي يأتي بأطفال من ذوي الإعاقة، هذا الشق يتطلب من الدولة التوعية بخطورته، كما عليها الحد من حوادث الطرق ورفع مستوى مواصفات الأمن الصناعي.
مصر دولة متحضرة تحترم الإنسان “المرأة، الطفل، ذوي الإعاقة”، حلم تتمنى رشا رؤيته، فهي ترى أن احترام الدولة لهذه الفئات يعني احترام لمجتمع كامل، ومن مقولة الزعيم الهندي غاندي اتخذت رشا أسلوب حياتها “لا يوجد معاق لكن يوجد مجتمع يعيق”، ورغم إعاقة المجتمع المصري لأحلام كل الفئات، أصرت رشا على رسالتها في المجتمع وهي إزالة العوائق أمام البشر وإن كانت نفسية، فالآخر لا يرى سوى نفسه، للأسف هذا سبب الجحيم الذي نعانيه الآن.
“الدولة وشركاءهم في الحياة”، عائقيين أمام كل شخص حتم قدره عليه أن ينضم لفئة ذوي الإعاقة، على مستوى الدولة تخبرنا “رشا”، أن اهتمام الدولة بهذه الفئة شكليًا فقط، يقولون أنهم يحرصون على تعليم ذوي الإعاقة ويشيدون لهم المدارس، لكن غير مسموح لهم باستكمال تعليمهم الجامعي، فالصم والبكم وفقًا للقانون ممنوعون من الالتحاق بالجامعة، أيضًا قالوا أنهم شيدوا مدارس مدمجة مؤهلة لذوي الإعاقة، لكن ليس هناك قانون يحاسب المدرسة التي ترفض طفل في الدمج، علاوة أن هناك الكثير من المدارس الغير مؤهلة لاستقبال ذوي الإعاقة.
الدولة لا ترى ذوي الإعاقة، بدليل أن آخر قرار أصدره رئيس الوزارء المهندس إبراهيم محلب، منذ أيام كان بصدد إلغاء اختصاصات المجلس القومي لشئون الإعاقة، وهو ما يعد تحديًا لقرار المحكمة الصادر من قبل بإشراف وزير التصامن الاجتماعي على المجلس، وبموجب قرار «محلب» يصبح هناك أشخاص آخرين يتولون أخذ القرار نيابة عن ذوي الإعاقة في شئون تحدد مصريهم، مما يعني أخذ خطوة للخلف في هذا الملف.
نأخذ الشق الثاني وهو “نحن”، كل شخص منا سواء بقصد أو دون قصد تسبب في ألم لذوي الإعاقة، وهو ما عبرت عنه “رشا”، لذا هي تتمنى أن ينظر المجتمع والناس لذوي الإعاقة نظرة إنسانية من الدرجة الأولى، مستنكره إظهارهم في السينما على أنهم أناس “ساذجة وحمقاء وبركة”، قائلة: بالعكس ذوي الإعاقة منهم طه حسين وعمار الشريعي وغيرهم من المبدعين العِظام، وليس كما تصورهم السينما أناس بلهاء.
تتابع رشا: من المعروف أن الثقافة مرتبطة بالتوعية، لكن للأسف ليس لدينا في المدارس، المساجد، الكنائس، اهتمام بذوي الإعاقة لتثقيفهم دينيًا ومعرفيًا، لدرجة أننا خاطبنا الكنائس والأوقاف بضرورة الاهتمام بهذه الفئة ولو فقط أثناء خطبة الجمعة بالمساجد، ويوم الأحد بالكنائس، لكن لم يهتم أحد ولم يأتي إلينا رد حتى الآن، كل هذا والعالم من غيرنا يتحول ويتغير، أمس وجه تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق «داعش»، رسالة بالإشارة إلى الصم والبكم من ذوي الإعاقة للإنضام إليهم، مقدمين لهم أموال وحياة أفضل من التي يعيشون عليها الآن، هنا ماذا تفعل الدولة المصرية حيال ما تقوم به تلك الجماعات الإرهابية؟، ماذا ستقدم للصم والبكم كي لا ينضموا لهذا التنظيم؟، هل ستمنعهم بشعارات الوطنية؟، وإن أقدمت على الشحن النفسي باسم الوطنية، الشخص المعاق سيقف مع نفسه ويسأل ماذا قدمت لي الوطنية؟
مصر تملك 540 قصر ثقافي ما بين مكتبات وأندية أدبية، ورغم ذلك تعيش انحطاط فكري، لـ”رشا” وجهه نظر في ذلك إذ تقول: الثقافة التي سادت الخمسينيات والستينيات كانت أضعاف الثقافة التي توجد حاليًا، قديمًا بيوت الثقافة كانت تحرص على حس الانتماء لمصر وكان هذا الأمر بمثابة الجمرات التفاعلية بين الناس، على عكس الحاضر الذي كثرت فيه بيوت الثقافة وأصبحنا نفتقر لمشروع قومي وطني نعمل عليه، فتاهت الثقافة والتوعية منا، وأصبح التعامل مع ذوي الإعاقة على استحياء.
في نهاية حديثنا تحمل رشا رسالة لكل قارئ وشريك في الحياة، وهي على كل شخص التعامل مع ذوي الإعاقة كإنسان لا كشىء، قائلة: علينا أن نتعامل مع بعض لا نستعمل بعض، لابد أن نحترم ذوي الإعاقة وننظر لهم نظرة كاملة لا ناقصة.
المصدر: ياسمين الغمري/ جريدة البديل .