هل تساءل أحدنا يوماً ما هو احساس أصحاب الاعاقات أو ذوي الاحتياجات الخاصة تجاه المجتمع ومَن حولهم وما هو شعورهم ازاء ما يواجههم من مواقف قد تشعرهم بنقص عندهم…عن باقي أقرانهم..فيلم دنياي يحكي قصة فتاة عمياء، صماء ويعرض ما تواجهه من مواقف في حياتها مستوحى من فيلم (بلاك) ل (سانجاي ليلا بهنسالي)…يبدأ العمل بكتابة بطلة القصة حكايتها وتُعَرِّف عن نفسها وقصتها ستكون عن رحلتها التعليمية مع أستاذها (ماهر)…(أيلا) الفتاة الضريرة ابنة عائلة مرموقة من سكان الجزيرة الكبيرة..فتبدأ بوصف العالم كيف يبدو من حولها أسود وكيف تراه هي وكل مَن في مثل حالاتها تظهر لنا أيلا في عقدها الرابع وهي تنتظر عودة ماهر الذي مضى على غيابه مدة 12 عاماً..وهي لا تزال على أمل اللقاء…وحين أصابها اليأس من عودته فاجأها بحضوره في ليلة ممطرة..لم تصدق أيلا أختها أيلين حين أخبرتها بوجوده في حديقة منزلهم..حتى تلمسته بيدها لتتعرف عليه لكن رجوعه لم يكن كما تحب وتتمنى أيلا..لأن ماهرأصيب بمرض الزهايمر…وكان في مراحل متقدمة منه..هذا المرض الذي يمحو ذاكرة الانسان فلا يعود يذكر شيئاً من ماضيه وحتى أقرب الناس اليه…
خيبة أمل
أصيبت أيلا بخيبة أمل كبيرة الا أنها قررت ان تكتب قصتها مع ماهر ليقرأها عسى ان تعود به الذاكرة فيذكر حياته السابقة ويتذكر أيلا معها اذ كانت أيلا لاتيأس أبدا ولاتعترف بكلمة مستحيل هكذا علَّمها ماهر بأن لا شيء مستحيل مع الاصرار والعزيمة (تقول هاندان والدة أيلا)…لتبدأ هاندان بالعودة في ذاكرتها للماضي عند ولادة أيلا..وتبدأ القصة الفعلية للعمل عام 1952..حين يخبر(رفيق) والد أيلا زوجته هاندان بأن ابنتهما الرضيعة عمياء وصماء كما أخبره الطبيب..تكبر أيلا على تلك الحال وتمر بمواقف كثيرة تتعرض من خلالها للخطر بسبب اعاقتها كما تعرَّض أهلها كذلك لحوادث عدة أيضاً بسببها…ليقرر أبوها ايداعها أحد المصحات..الا ان أمها ترفض ذلك وبشدة حتى يحصل موقف فاصل يجعل رفيق يحسم أمر ذهاب أيلا للمصح..اذ قامت أيلا بطرح أختها أيلين الرضيعة أرضاً لترتطم الصغيرة بعنف..فخاف الوالد من تكرار تلك المواقف مستقبلاً..في تلك الأثناء تسمع هاندان عن مدرسة في أنقرة تستطيع ارسال معلمين للأطفال الذين يعانون من الاعاقات فطلبوا من السيدة(سنبل) مديرة تلك المدرسة ذلك..وهذا المعلم هو (ماهر)..الذي كان في ذلك الوقت غارقاً بوحدته وهمومه على فراق أخته الوحيدة..ولايريد الخروج من عزلته للعالم الخارجي…الا ان السيدة (سنبل) أقنعته بأنه يجب عليه انقاذ حياة فتاة لا ذنب لها باعاقتها قد تلقى نفس مصير أخته التي انتهى بها الحال بمشفى الأمراض العقلية ومن ثم الموت هناك نتيجة الاهمال وعدم الاكتراث بمثل أولئك المرضى…
نور الحياة
كان حضور ماهر بالنسبة لايلا بمثابة النور الذي تراه من خلال وجوده الى جانبها..فاستطاع ماهر ومنذ اللحظة الأولى من لقائه معها ان يجذب انتباهها ويرسم الضحكة على محياها نتيجة تعامله الحرفي مع مَن هم بمثل حالتها..بعد مراقبة ماهر تصرفات أيلا العبثية وطريقة تعامل أهلها معها حاول ماهر ابداء اعتراضه حتى احتدَّ النقاش بينه وبين والدها(رفيق) لدرجة ان قرر رفيق طرد ماهر والاستغناء عن خدماته لكثرة صدامه معه أولاً ولادمان المعلم ماهر على الكحول ثانياً…لكن ماهر لم يأبه لذلك وأصرَّ على المكوث مع أيلا لينتشلها من عالم الظلام الذي يحيط بها..وليقينه التام أيضاً أنه اذا تخلى عن تعليمها سيكون مصيرها كمصير أخته (تاتيان) قبلها..فمن أجل البقاء الى جانبها قرر الاقلاع عن الكحول ليستطيع السيد رفيق تَقَبُّل وجوده في بيته..
أجرى ماهر تغييرات جذرية في قسم من منزل عائلة أيلا وطلب من السيدة (هاندان) مهلة 20 يوما فقط يبتعد فيها بأيلا عن كل أفراد عائلتها في هذا القسم الفارغ من البيت ولا تتصل بأحد من عالمها السابق..ليبدأ تعليمها من نقطة الصفر تارة بالعنف والقسوة وتارة باللين والعطف حتى تتشذب وتتهذب لتكون فرداً طبيعياً تستطيع الانخراط بين الناس والعالم من حولها…
وصول الهدف
عانَتْ أيلا في اليوم الأول الكثير كما يعاني الطفل حين فطامه أو في اليوم الأول له في المدرسة بعيداً عن أمه…الا ان ماهر وضع على قلبه حجراً كي يستطيع النهوض بأيلا والوصول لهدفه..فبدأ يعرِّفها على الحياة والأشياء حولها من الصفر لتتعرَّف عليها لأول مرة بأسلوبه هو وحاول ترويضها كما تُرَوَّض الفرس الشرسة..
كل هذا كان خلال سفر السيد رفيق حيث أخذت السيدة هاندان على عاتقها مسؤولية وجود ماهر في بيتهم أثناء غياب زوجها على الرغم من معارضة رفيق لذلك..وحين انتهت المدة التي طلبها ماهر وحان وقت عودة السيد رفيق لم تكن أيلا وصلت بعد لما أراد ماهر لها فأصيب بخيبة أمل وطلب المزيد من الوقت الا ان وصول رفيق للبيت وطلبه منه مغادرة المنزل حال دون ذلك…وفي أثناء مغادرته وجد أيلا أنها قد عادت لفوضويتها الأولى فوراً فقسى عليها بصورة كبيرة..فما كان منها الا ان استجابت له ولتعليماته في اللحظة الأخيرة قبل رحيله مما جعل والديها في غاية السعادة..فبدأت بفهم معاني الكلمات والنطق بها..فسعدَتْ أيلا بنفسها كما أسعدَتْ مَن حولها وأولهم ماهر حيث ربح الجولة الأولى بمعركته في قهر ظلام تلك الطفلة التي لاحول لها ولا قوة..
تابع ماهر مسيرته التعليمية لأيلا حتى أصبحت صبية كباقي مثيلاتها اللواتي في عمرها..اندمجَتْ مع العالم من حولها تمرح وتلعب وتبني صداقات حتى وصل الأمر بماهر ان أراد الحاقها بجامعة الفنون والآداب..استغرب عميد الكليةالأستاذ(بدري) طلب ماهر ذاك حيث لم يسبق لأحد مثل أيلا ان تجرَّأ على ذلك ولكن تحت اصرار ماهر واقناع الأستاذ بدري بأنه سوف يكون دائماً الى جانب أيلا ليشرح لها كل ما يقوله الأساتذة في دروسهم كلمةً كلمة وكذلك جدوى عمل الخير..اقتنع بدري بعض الشيء بشرط ان يتم قبولها بالجامعة بعد اجراء مقابلة لجنة الجامعة معها وذلك كظرف استثنائي..وبالفعل كانت مقابلتها موفقة حيث قالت لهم خلالها ان المعرفة هي النور والجرأة والعقل والصوت أما بالنسبة لها بالذات فان المعرفة هي أستاذها ماهر الذي تعرَّفَتْ من خلاله على الدنيا من حولها..فكان هو دنياها كلها..فتم قبولها بالجامعة استناداً لتلك المقابلة الناجحة…
اصرار
جنَّد ماهر نفسه لمتابعة دراسة أيلا وشرح ما يقوله الأساتذة في المحاضرات فلم يملّْ ولم يكلّْ..أصبح لأيلا أصدقاء كثر علَّمَتْهم بعض اشاراتها واندمجت بجو الجامعة تماماً ولم تخجل يوماً من اعاقتها تلك…أخفقَتْ أيلا بسنواتها الأولى من الدراسة..الا أنها والأستاذ ماهر لم يستطيعا تَقَبُّل فكرة فشلها بعدما أمضى من حياته مدة 18 عاما في تعليمها..خاصة بعدما بدأ يلاحظ تراجع حالته الصحية وكبره في السن..مما زاده اصراراً على متابعته لتعليمها لتستطيع الاعتماد على نفسها فيما بعد..أما أيلا فلم تكن تراه ذلك الأستاذ الكبيرالذي يعدُّها كابنته بل أخذها عقلها لأماكن وأفكار أخرى اذ ان ماهر هو المذكر الوحيد بحياتها أضف لذلك أنه طوق النجاة الذي أخذ بيدها لبر الأمان فأخذَتْ عواطفها تتحرك تجاهه كأي أنثى شابة في عمرها..وحين صارحَتْه بحبها له وطلبت منه ان يقبلها ابتعد عنها ونهرها..الا أنه عاد وقبَّلها فشعر أنه قد فقد احترامه كأستاذ ولكنه أعطاها ثقة بنفسها كامرأة قدَّر لها عواطفها…لكنه لم يعطها الفرصة للاعتذار له عن احراجه…اذ غادرها تاركاً لها رسالة توصية وتشجيع بأن تتابع كفاحها حتى تصل للنجاح الذي يتطلعان اليه..وفعلاً تابعت مسيرتها على الرغم من كل العثرات التي واجهتها وكذا الانتظار الطويل الذي انتظرَتْ به عودة ماهر اليها مدة 12 عاما..كل ذلك دفعها لأن تعيد رحلته معها حين رأتْه على تلك الحال من المرض الذي ألمَّ به (الزهايمر) وقررت ان تعلمه كل شيء من الصفر ليستطيع ان يتعرَّف على العالم الذي نسيه من جديد..الا ان الفرق بينهما هو ان ماهر يرى كل شيء وكأنه لا يعيه..فهو لايتذكر أي شيء من الماضي وكذلك لايفهم معنى ما يجري من حوله كما الطفل الصغير…فاتَّبَعَتْ معه الأسلوب ذاته الذي تبعه معها في التعرُّف على الأشياء..حتى كان يوم تخرجها من الجامعة بعد كل تلك السنين والذي طالما حلما به…فارتدَتْ قبعة التخرج وهي تبكي بحرقة لعدم قدرته مشاركتها فرحة تلك اللحظة…فذهبت لماهر في مشفاه لتقف أمامه يائسة من حاله ولكن ماهر حين رآها على تلك الحالة عادَتْ له بعض من ذاكرته وأصبح يتلمس وجهها كما بدأت بتلمس وجهه عندما جاءها أول مرة في صغرها وأخذ يتهجى الكلمات تماماً كما فعلت هي لينتهي الفيلم بتلك اللقطة الرائعة التي تجمعهما بعد ان تجدّد الأمل لكليهما…
ابداع
فيلم من أروع ما أنتجت السينما التركية من أفلام وقد أبدع كلٌّ من بطليه ابداعاً منقطع النظير فلقد أتقنت(بيرين سات) وكعادتها لغة الاشارة لدى الصم وكذلك تعابيرها في كل موقف من مواقف العمل حتى طريقة سيرها كانت كمَن بالفعل عمياء…كذلك البطل ومخرج العمل بآن معا (أوغور يوجيل) فقد أتقن دوره بشكل كبير سواء بتعليم أيلا وقسوته عليها وتأثره بالمواقف التي يمرون بها، وأدائه لدور المصاب بالزهايمر..كما أبدع باخراجه لهذا العمل..حتى تلك الصبية اليافعة (ميليس موتلوتش) التي قامت بدورأيلا الصغيرة على أتم وجه مما ينبي عن موهبتها الكبيرة..تلك الصغيرة التي قامت من قبل بدور الأميرة مريم بنت السلطان سليمان…
فيلم حزين مؤثر لأبعد الحدود ولكنه روعة بقصته واخراجه وأداء ممثليه…