0 تعليق
735 المشاهدات

المكفوفون يستعيدون بصرهم بتقنية السونار الوميضي



[B]
نجح عدد من المكفوفين في تطوير تقنية نظر تشبه تقنية نظر الوطواط وتقوم على التعرّف إلى المحيط من خلال إحداث طقطقة باللسان. ونظراً إلى النجاح الباهر الذي حقّقته هذه التقنية في برلين، فإنها قد تنتشر أكثر فأكثر في باقي أرجاء ألمانيا. وتلاقي تقنية {السونار الوميضي} إقبالاً كبيراً لدى المكفوفين حتى أن بعضاً منهم يعتمدها لركوب الدراجات الهوائية وللمشي في الجبال مسافات طويلة.

تدور جولي البالغة سنتين ونصف السنة بمرح وفرح في أرجاء المنزل حاملةً في يدها الممدودة عصا صغيرة بيضاء اللون. وبين الحين والآخر، تسمعها تصدر صوت طقطقة كتوماً بواسطة لسانها. يقول والداها إن هذه الطقطقة تسمح لها برؤية الأشخاص والأشياء بواسطة أذنيها. تتدبّر جولي أمرها إلا أنها لا تزال تحتاج إلى مزيد من التمرين.

أما فريدا البالغة أربع سنوات ونصف السنة فقد اعتادت أكثر على تقنية النظر هذه. فإذا وقف أحدهم على بعد مسافة صغيرة منها وحمل بيده غطاء وعاء ما، تستطيع هذه الطفلة تحديد موقع الغطاء على نحو كبير من الدقة. فبإصدارها طقطقة ناعمة بواسطة لسانها، يمكن لفريدا أن تجري مسحاً للأغراض الموجودة أمامها وتحدّد موقع الغرض المقصود. وبعد طقطقة صغيرة، عثرت فريدا على الغطاء ونجحت في تحديد مكانه. وبإصدارها المزيد من الطقطقات، تستطيع فريدا اكتشاف تفاصيل أخرى كأن تحدّد مثلاً شكل الغطاء ومعالمه. لكن تقنية {السومار الوميضي} تنطبق على نطاق جغرافي محدّد. ففي المناطق التي ينقطع فيها الصدى، لا يعود الكفيف قادراً على تلقّي استجابة صوتيّة ترشده وتدلّه على طريقه.

في هذا السياق، يقول ستيفن زيمرمان، والد جولي: {لقد أمضينا وقتاً طويلاً في البحث عن بديل جيّد لحاسة النظر التي فقدتها ابنتنا}. ويعتقد بأن تقينة السونار الوميضي ستسمح للمكفوفين بعيش حياة تنطوي على درجة عالية من الاستقلالية.

يركبون دراجات

قدِم أميركيان إلى برلين ليدرّبا جولي وفريدا على تقنية السونار الوميضي. أخذ المدرّبان الطفلتين في جولة في أنحاء المدينة وجعلاهما تقومان ببعض التمارين الأولية وفسّرا لوالدَي كلّ منهما المفهوم الذي تقوم عليه تقنية النظر بواسطة الأذن. كذلك، لفتا إلى أنها تتطلّب بشكل أساسي إصدار الصوت الصحيح: فمثلاً لكي يحدّد الكفيف موقع الأشياء الموجودة على مقربة كبيرة منه، من الأفضل له أن يصدر طقطقة سريعة وقصيرة.

في هذا الإطار، يشار إلى أن حيوان الوطواط يتنقّل متّبعاً الطريقة عينها. فهو يستند في تنقلاته إلى الصدى الذي يساعده في المرور بين أغصان الشجر الكثيفة من دون الاصطدام بها وفي التقاط الحشرات من على الأغصان بدقة عالية. وصحيح أن الإنسان لا يسمع بالدقة التي يسمع بها الوطواط، إلا أنه يستطيع ببذله القليل من المجهود وباتباعه تقنية السونار الوميضي، تحقيق نتائج مذهلة وتطوير حاسة السمع لديه بشكل ملحوظ.

يُدعى أحد المدرّبيْن الأميركيين جوان رويز، خبير في السونار الوميضي ظهر في عدد كبير من أشرطة فيديو على موقع {يوتيوب} وهو يقود دراجة جبلية على طريق وعرة.

وبالفعل، كان رويز قبل توجّهه إلى برلين قد توقّف لبعض الوقت في إيطاليا حيث سجّل رقماً قياسياً جديداً. في ميلانو، جُهِّز أحد الاستوديوهات بمدرج سباق طوله 20 متراً وُضعت عليه 10 أعمدة لتكون بمثابة عوائق تعيق المتسابق. بعد الانتهاء من التحضيرات، راحت الكاميرات تصوّر رويز وهو يقود دراجته ويطقطق بلسانه باستمرار. وكم كانت دهشة الجمهور كبيرة وهو يتابع مسار تقدّم رويز الذي كان يشقّ طريقه مستنداً إلى ما يشبه الحدس الذي يوجِّه الذين يمشون وهم نائمون. بدا وكأن الطقطقة كانت تسمح له برؤية العمود تلو الآخر. انعطف رويز يساراً ثم يميناً وبعد مرور 48،34 ثانية وصل إلى خط النهاية من دون أن يوقع أي عمود.

قياس المسافات

يعتقد رويز أن أياً كان يستطيع تعلُّم القيام بما يقوم به بمن فيهم تلميذتاه الصغيرتان في برلين جولي شويزر وفريدا كابلمان. يقول رويز: {أداء الفتاتين جيّد جداً بالنسبة إلى سنّهما الصغيرة}.

تتنقّل جولي، الأصغر سناً بين الفتاتين، في شقة والديها من دون أن تشعر بأي خوف أو قلق. حتى الساعة، لا يزال يرتكز اكتشافها عالم الأصداء على الألعاب. إذ يشجّعها والداها أحياناً على استعمال لسانها لتحديد مكان لعبة من ألعابها أو طابة علماً أنها لا تنجح دوماً في ذلك.

في المقابل، تقول والدة فريدا إن ابنتها أصبحت بارعة في استخدام هذه التقنية. فعندما سألت الأم ابنتها أخيراً عن طبيعة الشيء الذي كانتا تمرّان من أمامه خلال تجوّلهما في المدينة، طقطقت فريدا بلسانها بضع طقطقات وأجابت: {إنه حائط}. وحين كانتا تزوران المقبرة، طلبت الأم من فريدا أن تحدّد موقع برميل ماء يبعد عنهما حوالى ثلاثة أمتار. وما إن انتهت الأم من كلامها حتى اتجهت فريدا نحو البرميل ومدّت يدها إليه وبلّلتها بالمياه. وفي إحدى المرات، توقّفت فريدا أمام شجرة وراحت تطقطق وترفع رأسها شيئاً فشيئاً وكأنها تجري مسحاً للشجرة. وبعد انتهائها من الطقطقة، قالت الطفلة متعجّبة: {كم هي هذه الشجرة!}.

الجدير ذكره أن فريدا كانت قد اكتشفت ظاهرة الأصداء قبل أن يدرّبها الأميركيان على تقنية السونار الوميضي. فعندما كانت لا تزال طفلة تدبدب على الأرض، كانت تحبّ فريدا أن تضرب يديها بالأرض وتستمع من بعدها إلى الارتدادات الناتجة من ضربتها. ومع مرور الوقت، أصبحت فريدا تصدر أصواتاً حادة أشبه بصوت الغراب لتقيس المسافات التي عليها احترامها سواء عند صعود الدرج أو النزول إلى محطة قطار الأنفاق أو الدخول إلى أحد المتاجر. لكن منذ بدأت بالتمرّن على تقنية السونار الوميضي، باتت فريدا تفضّل طقطقة اللسان على الصراخ لأنها تحدث صدى أكثر دقة من صدى الصراخ. واليوم، صارت تجد لذة في الذهاب مع والديها إلى الأصدقاء واكتشاف شققهم. تقول والدتها في هذا الإطار: {أول شيء تقوم به فريدا عند دخولها إلى منزل أحد الأصدقاء هو التحقّق من كل شاردة ووادة فيه}.

ابتكار لا مثيل له

في فترة من الفترات، كان رويز مجرّد مبتدئ في عالم تدريب المكفوفين. في الواقع، تعلّم رويز هذه التقنية من مواطن كاليفورني يُعد رائداً في مجال التحديد الصَدوي للمكفوفين يُدعى دانييل كيش. في شبابه، كان كيش يتسلّق الجبال الوعرة لوحده مستنداً إلى عصا للمشي وإلى الأصداء التي كانت تنتج من طقطقات لسانه. تعلّم كيش كيف يتعرّف إلى الأشجار والصخور المتدلية والأسوار واللافتات (التي كان يستطيع آنذاك قراءة الكلمات المحفورة عليها). وقد استرعى دهاء كيش وذكاؤه هذا انتباه وسائل إعلام كثيرة صوَّرت مغامراته وتحرّكاته وأطلقت عليه لقب {الرجل الوطواط}.

وفي السنوات الأخيرة، درَّب كيش عدداً كبيراً من الطلاب الذين أصبحوا يعملون اليوم أساتذة مجازين لتدريب المكفوفين. يقول: {درّبنا حتى الآن 500 كفيف و5000 أستاذ في 18 بلداً}.

ومنذ عامين، أمضى كيش بضعة أيام في العمل مع لوكاس موريي، كفيف في السابعة من عمره يعيش في مقاطعة دورسيه الواقعة جنوب غرب بريطانيا. وكان لهذا التدريب تأثيرعميق في حياة لوكاس. فاليوم، يستطيع أن يلعب كرة السلة على رغم إعاقته وهو يستند خلال لعبه إلى الأصداء التي تدلّه على موقع الحلقة التي عليه أن يدخل فيها الطابة.

تولى كيش ومساعدوه مهمات أخرى في كلّ من المكسيك وفرنسا وسويسرا وبرلين. في هذا السياق، يقول والد جولي ستيفن زيمرمان: {بحثنا مطوّلاً عن شخص يعلّم تقنية السونار الوميضي في ألمانيا، إلا أننا لم نعثر على أحد}. فهذه التقنية ابتكار جديد لم تعرفه ألمانيا أبداً.

في ما مضى، اقتصرت نشاطات المكفوفين عموماً على نطاق جغرافي ضيّق كانوا يستعينون للتحرّك فيه بعصا بيضاء اللون. لكن مع التوصّل إلى تقنية التحديد الصَدَوي، أصبح بإمكانهم التحرّك في نطاق من الحرية والاستقلالية أوسع بكثير. في الحقيقة، يمكن لصوت طقطقة عالٍ أن يحدث إشارات تصل إلى مبنى يقع على مسافة تقارب المئة متر. كذلك، تسمح هذه التقنية بتحديد موقع سيارة مركونة على بعد خمسة أمتار، وموقع محطة القطارات من خلال إصدار بضع طقطقات في مختلف الاتجاهات. بالإضافة إلى ذلك، تسمح للأشخاص الذين اعتادوها وتمكّنوا منها بتحديد موقع مدخل المسارات وأكشاك بيع العصائر. تقنية الاستشعار عن بعد هذه ممتازة للتعرّف إلى الأماكن المجهولة.

بحث عن بدائل

منذ نحو 18 شهراً، تسلّم والدا جولي النتائج الطبية التي أكدت أن ابنتهما ستبقى مكفوفة طوال حياتها بسبب خلل جيني. ولا يزالان يتذكّران حتى اليوم الخوف الذي انتابهما في تلك اللحظة. في الواقع، لم يخافا من حالة العمى التي أصابت ابنتهما بقدر ما خافا من المصير الذي ينتظر هذه الطفلة. لقد تخيّلا ابنتهما ممسكة بذراع مرشد للمكفوفين في طريقها على الأرجح إلى مدرسة للمكفوفين حيث يُفصل بين معظم الأطفال الذين تشبه حالتهم حالتها. عندها، قرر والد جولي البحث عن بدائل. يقول: {عندما قرأت عن دانييل كيش في مواقع الإنترنت، فهمت أنه رجلنا المنشود}.

وعلى غرار والدَيْ جولي، طلب والدا فريدا مساعدة كيش. واليوم تعمل العائلتان على حثّ الأهالي الآخرين الذين يعاني أولادهم الحالة نفسها على تدريبهم تدريباً خاصاً بالمكفوفين، كذلك تبذلان جهوداً في سبيل إنشاء جمعية سيُطلق عليها إسم {طريقة أخرى للرؤية}

(Another Way of Seeing). وراهناً، يقتصر شغل العائلتين الشاغل على البدء بتعليم فريدا وجولي كل المهارات التي تحتاجانها لا الاكتفاء بتعليمهما المهارات الأساسية.

وفي سنّ كلّ من جولي وفريدا، يتميّز الأولاد عادةً بفضول كبير وبحب حركة واضحة، ما يعني أن عملية التعلّم ستكون أسهل وأسرع بالنسبة إليهما. فجولي طفلة نشيطة ذات لسان طليق. تقول والدتها إلين شويزر عنها: {في الواقع، تتحدّث جولي من دون توقّف}.

مشت جولي باتجاه الطاولة وفي يدها كتاب تتحسّس صفحاته وراحت تبتسم ابتسامة تنمّ عن رضى وسعادة {إنه كتاب نيني ناسيويس}. عرفت الطفلة عنوان الكتاب. فبتحسّسها صفحاته، استطاعت تمييز هذا الكتاب من بين مجموعة قصص أطفال لديها يبلغ عددها حوالى الخمسين كتاباً. يقول والد جولي: {تعرف تمييز كل كتاب عن الآخر. كذلك، تعرف موضوع كل كتاب ومحتواه}. وقد يعود سبب ذلك إلى كل تلك القراءات التي يقوم بها والدا جولي لها والتي على الأرجح حوّلتها إلى فتاة محبّة للكتب. وقبل تعليمها حبّ المطالعة، عمل الوالدان على تعزيز خيال ابنتهما من خلال إخبارها قصصاً وحكايات لا تُحصى.

عالم جولي غنيّ بكلمات تتّخذ أشكال تعبير أخرى. فهي تجمع كلماتها من كل حدب وصوب وتميل بصورة خاصة إلى حفظ الكلمات الصعبة والقليلة الاستعمال. {وجه طفيلي}، هي إحدى العبارات التي تردّدها جولي وتقصد بها {وجه طفولي}. ومع أنها تميل أحياناً إلى التفوّه بعبارات لا تعرف معناها، تستطيع جولي في المقابل أن تلقي لك قصيدة كاملة حفظتها من أحد دواوين والدها الشعرية. وخلال إحدى الزيارات الأخيرة إلى طبيب الأطفال، عرّفها والداها إلى غرض جديد. قالا لها: {أنظري، إنها سماعة الطبيب}. وما إن انتهى الوالدان من التلفّظ بالكلمة، حتى صحّحت لهما الطفلة طريقة التعبير مستعملة التركيبة النحوية الألمانية السليمة.

وفي هذا الصدد، يعلّق والد جولي قائلاً: {يميل الأطفال عادةً إلى الضحك عندما يرون أهاليهم يضحكون. لكنّ جولي تحبّ استعمال الكلمات لإضحاكنا}.

لا حول ولا قوة!

عندما تلعب جولي في الخارج، تشعر وأنت تنظر إليها بأنها طفلة عادية مثلها مثل سائر الأطفال. فهي تقود دراجتها الهوائية بكل شجاعة وثقة وتمرّ من جانب الأعمدة الكهربائية، والكلاب، والدراجات الأخرى المصفوفة في الزاوية، من دون أن تصطدم بأي منها. وطوال فترة اللعب، لا تكفّ جولي عن الثرثرة والتفوّه بكلمات منها مفهومة ومنها غير موجودة من أساسها في قاموس اللغة الألمانية. يشاهدها والداها وهما يحاولان قدر المستطاع عدم ظهار خوفهما على ابنتهما. فهما يريدانها أن تتعلّم كيف تجد طريقها بنفسها من دون مساعدة من أحد. وهما لا يمنعانها من القفز من على الكرسي ومن تسلّق السلالم المصنوعة من الحبال في ملعب اللعب. يقول والدها: {ضربة صغيرة على رأسها لن تقتلها}.

عادةً، لا يتدخّل والدا جولي في تصرّفات ابنتهما إلا عندما يجدان أنها في خطر حقيقي. ويعتقدان بأن تصرّفهما هذا هو الطريقة الوحيدة التي يستطيعان فيها التأكد من أن ابنتهما ستتعلّم كيفية التعامل مع المواقف المخيفة التي قد تحصل في عالمنا الحقيقي.

لكن لسوء الحظ، لا تجري الأمور عادةً على هذا النحو. إذ حُكم على جولي أخيراً {بالإعدام} لا سيما بعدما ختم مسؤول في إحدى الدوائر الحكومية بطاقة هويّتها بختم كُتب عليه {إنسان عاجز}. وبالنسبة إلى معظم الأشخاص المكفوفين، تعد هذه التسمية البداية لحياة فيها خيارات محدودة للغاية. فبذلك، ستصبح حياة المكفوفين نمطية رتيبة مكرّرة فيها المدرسة ويليها لاحقاً العمل وفيها المسار اليومي الذي يقطعونه من وإلى المنزل. وفي هذه الرحلة التي سيحفظونها عن ظهر قلب، ستكون الخطوات مدروسة ومعروفة كأن ينزلوا مثلاً من الباص ويمشوا 120 خطوة ثم ينعطفوا إلى اليسار ويمروا بالمنازل ثم يجتازوا الطريق وينعطفوا يميناً ليسلكوا الطريق المصفوفة بالحصى.

والحق يقال، عانى البيروقراطيون الألمان التقليديون صعوبةً كبيرةً في إيجاد طريقة للتعامل مع الأشخاص المكفوفين الذين يخاطرون بحياتهم بخروجهم إلى البراري بمفردهم من دون مرافقة مرشد أو كلب. ولن يتردد هؤلاء البيروقراطيون في طرد أشخاص على غرار كيش الملقّب بـ{الرجل الوطواط} والمتّخذ له شعار {عش حياتك بلا قيود}، كونه طفلاً أعجوبة وموهبة نادرة تكاد تكون قوى خارقة خارجة عن الطبيعة البشرية. في ألمانيا، ثمة عدم اكتراث بتقنية السونار الوميضي. إذ يعتبر الألمان أنه من المفيد أن يتقن المرء استخدام هذه التقنية ولكن في المقابل يسألون: بما تنفع هذه التقنية المكفوف العادي؟

لنأخذ مثال رينر ديغالدو الذي يعمل كمساعد اجتماعي في الاتحاد الألماني للمكفوفين والمعوّقين بصرياً. فبالإضافة إلى تقنية السونار الوميضي، يستخدم ديغالدو تقنية السمع المكاني التي تسمح له أثناء لعب كرة قدم المكفوفين بتحديد موقع الجدار المحيط بالملعب عن بعد 20 متراً. وعندما يغادر ديغالدو منزله، يطقطق أصابعه بين الحين والآخر ليحدّد مكان الأبنية الشاهقة ويتجنّب الاصطدام بها. لكن، قبل أن يتبنّى ديغالدو تقنية السونار الوميضي التي يروّج لها كيش، يريد مزيداً من الأدلة والبراهين على فاعليّتها. ويوضح قائلاً: {نريد دراسة رسمية عن هذا الموضوع تشمل عدداً أكبر من الأشخاص الذين أُجريت الاختبارات عليهم. عندها سنعرف ما إذا كان الجميع يستطيعون فعلاً تعلّم هذه التقنية}.

لا يحبّذون الطقطقة

أظهرت تجارب عدة أن أياً كان، حتى الأشخاص المعصوبي العينين الذين لا يعانون مشاكل نظر، قادر في فترة قصيرة على تعلّم التقنية التي تسمح له بتحديد مواقع الأشياء المحيطة به. في الواقع، جعل النقص في التعليمات والتوجيهات بعض المكفوفين يتعلّمون بأنفسهم التقنية. ومن جملة هؤلاء، نذكر دايف جانيشاك، طالب ثانوية عامة في الخامسة عشرة من عمره يعيش في مدينة ماربورغ الواقعة غرب ألمانيا. وكان جانيشاك قد تعلّم تقنية السونار الوميضي بالصدفة عندما كان في سن الرابعة. في تلك الفترة، كان يرتاد مركز الحضانة مع صبيّ مصاب بإعاقة عقلية كان يمضي النهار بطوله في الطقطقة بلسانه. في البداية، راح جانيشاك يغيظ الصبي ويقلّد صوت طقطقته. لكنه سرعان ما اكتشف أن الطقطقة كانت تساعده في التعرّف إلى معالم المكان الذي يتواجد فيه. يقول جانيشاك: {فجأة صرت أعرف تحديد مكان الأبواب وما إذا كانت هذه الأبواب مفتوحة أو مغلقة}.

لدى المبصرين، تطغى الرؤية على الإدراك الحسيّ. في الواقع، كسبت حاسة السمع خلال مراحل التطور البشري دوراً ثانوياً سمح لها بالتركيز على الأشياء التي تصدر أصواتاً مثل صوت جاكوار جائع في البراري أو صوت ضيف في حفلة صاخبة يصرخ لصديقه الموجود في الطرف الآخر من الغرفة. لكن تجدر الإشارة إلى أن تحديد الوجهات والأماكن بالاستناد إلى الأصوات والأصداء قد يكون عملية مضلّلة وغير دقيقة.

في السياق عينه، يقول عالم الأعصاب الحيوية المقيم في ميونيخ لوتز وييغريبي: {لهذا السبب، تميل أدمغة المبصرين إلى إزالة الصدى المكاني}. يُلغى هذا الصدى تلقائياً باعتباره مجرّد ضجيج خلفي. ولكن هذا العالم يضيف قائلاً: {هذه المعلومة لا تضيع وتبقى مسجّلة في الذاكرة. يستطيع المرء أن يتعلّم بسرعة طريقة استعمال هذا الصدى، ما سيفيد حتماً الأشخاص المكفوفين}.

وبالفعل، تبيّن أن معظم الأشخاص المكفوفين لا يعرفون سوى الشيء البسيط عن طريقة عمل التحديد الصَدوي. فبعضهم يضرب الرصيف بالعصا خلال المشي لتحديد موقع مدخل المنزل والبعض الآخر يطقطق بأصابعه عند دخوله إلى حمام ليس حمامه ما يحدث صدىً أجوف يسمح له بتحديد موقع المغسلة. لكنّ ضرب العصا على أنواع مختلفة من المسطحات يُحدث صوتاً يختلف من حالة إلى أخرى، كما أن طقطقة الأصابع تَحدُث على بعد مسافات مختلفة من الأذن ما يجعل الدماغ يعالج الصوت بطرق مغايرة في كل مرّة.

الطقطقة باللسان هي الطريقة الوحيدة التي تسمح بالحصول على صدى مكاني دقيق. إذ يشكّل الفم والأذنان عملياً وحدة واحدة يصبح التعاون بين أجزائها تلقائياً مع ممارسة مزيد من التمارين. ومع ذلك، يجد مكفوفون كثر صوت الطقطقة مزعجاً. فمهما بذل رينارد إيلير الذي يدرّب المكفوفين في ماربورغ من جهود لتشجيع طلابه على تجربة تقنية الطقطقة، تجده غالباً يفشل في ذلك. يشرح رينارد هذا الواقع قائلاً إن المكفوفين يعيشون في خوف دائم من لفت الأنظار إليهم. فبما أنهم يعجزون عن رؤية الأشخاص الذين يحدّقون بهم، يبدأون بافتراض أسوأ السيناريوهات ويتخيّلون أن الآخرين يسخرون منهم.

اهتمام المدارس

غالباً ما يبدأ هذا الخنوع في مرحلة مبكرة من الحياة. إذ نلاحظ أن أطفالاً مكفوفين كثراً يرفضون مغادرة المنزل وارتياد الأماكن العامة. وعندما يخرجون، يبقون ملتصقين بأهلهم وممسكين بأيديهم طوال الوقت. يقول إيلير في هذا الإطار: {هذا التصرف خاطئ جداً. فبذلك، يتقوقع الأطفال شيئاً فشيئاً على أنفسهم. ومن المؤسف أن نشاهد كثيراً منهم وهم يتربّون في ظلّ جو من رعاية وحماية مبالغ فيهما.

في فترة من الفترات، راح خبراء التربية في ألمانيا يناقشون ما إذا كانت طريقة الطقطقة أكثر إفادة في حال تعلّمها الكفيف في سنّ صغيرة. لكن حتى الآن، لم يتوصلوا إلى أي نتائج بهذا الخصوص. يضيف إيلير قائلاً: {لكن، إذا بدأ الأهل يطالبون بتعليم الطقطقة الآن، سيتغيّر الوضع على نحو واضح}.

بالتالي، هل يعني ذلك أن أفكار دانيال كيش ستلاقي رواجاً في المدارس الألمانية الخاصة بالمكفوفين؟ هل سيبدأ الأساتذة هنا بتلقّي دروس في تقنية السونار الوميضي؟ يجيب عن هذا السؤال جوجين ناجيل مدير قسم تدريب المعلمين في بليستا، مدرسة ألمانية للمكفوفين تأسست في ماربورغ منذ نحو قرن من الزمن، قائلاً: { نعم قطعاً}. كان ناجيل قد أرسل أحدهم إلى برلين لمراقبة التدريب الذي أُعطي للطفلتين جولي وفريدا وكان انطباع هذا الأخير جيداً جداً.

في الوقت الراهن، تمارس كلّ من جولي وفريدا تقنية السونار الوميضي مع أهلها. ويبدو أن فريدا بدأت تحقّق تقدّما كبيراً بفضل فضولها وحب الاكتشاف لديها. حتى الطفلة جولي الأصغر سناً، صارت تعمد بين الحين والآخر إلى إحداث طقطقة بلسانها. وهي لا تحب صوت الطقطقة فحسب إنما تحب أيضاً التلفّظ بكلمة {طقطقة}. فعلى سبيل المثال، عندما تركب جولي دراجة مدرّبها، تعرف أنها تستطيع التعرُّف إلى الأغراض التي تعترض طريقها. ولا تفوّت أي فرصة للتعليق على كل ما يجري حولها. وفجأة، تجدها اصطدمت بعمود وصمتت لبرهة من الوقت صمتاً مخيفاً. إلا أنها سرعان ما تكسر صمتها فتصرخ قائلةً: {آه، لقد نسيت أن أطقطق مجدداً}.[/B]

كتـاب الأمـل

+
سمر العتيبي
2018/12/09 3776 0
راما محمد ابراهيم المعيوف
2017/12/29 4152 0
خالد العرافة
2017/07/05 4692 0