” معهد ديمة” ليس مؤسّسة حكوميّة،وليس مؤسّسة مدنيّة اعتياديّة تدعمها منظّمة أو اتحاد دوليّ أو تتبّناها مؤسّسة ربحيّة على سبيل الخدمة المجتمعيّة،بل هو مؤسّسة نمت في قلب إنسان مربٍ مخلص خلاّق استجاب لصوت أبوّته العظيمة،واستسلم لنداء إنسانيته الغامرة،فكان المواطن الصّالح الذي يحمل همّ شعبه ووطنه،ويقوم بدوره المأمول في دفع عجلة المسؤوليّة والخدمة المجتمعيّة في وطنه .
إنّه ” معهد ديمة ” لذوي الاحتياجات الخاصّة في النّجف الأشرف في العراق،وإنّه الأستاذ الدّكتور عبد الرزّاق عبد الجليل العيسى،رئيس جامعة الكوفة السّابق،والمستشار الثقافي السّابق في سفارة العراق في لندن،والمستشار الثّقافيّ الحالي في سفارة العراق في الأردن،عندما سألناه عن “معهد ديمة” لذوي الاحتياجات الخاصّة قال لنا : ” إنّه بيت بسيط وجميل وصغير،جمع شمل الأحبّة من فلذات أكبادنا الذين يسمّون بذوي الاحتياجات الخاصّة ،يجمعهم بيت ديمة، فاحتضن هؤلاء الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصّة ورياض الأطفال،وسمّوا بيتهم الصّغير بيت ديمة”.
انبثق مشروع ” معهد ديمة” من قلب أب وأم كانا يحلمان بمقعد دراسيّ لابنتهما “ديمة” التي وُلدت على شكل ملاك طاهر،وهي تعاني من “متلازمة داون”، الأبّ كان هو الأستاذ الدّكتور عبد الرزّاق عبد الجليل العيسى،وزوجته هي الدّكتورة أنوار الكويتيّ المعروفة بخيرها وصلاحها وتقاها،وضاقت الدّنيا بما رحبت على ابنتهما الطّفلة،ولم يجدا لها مقعداً تدرس فيه في مدينة النّجف قاطبة؛حيث لا مكان حينها لطفلة صغيرة من ذوي الحاجات الخاصّة.
الجميع نصح الدّكتور عبد الجليل وزوجته بأن يستسلما للعجز،وأن يحبسا ابنتهما في البيت شأنها شأن الآلاف من الأطفال العراقيين الذين يولدون ويموتون مساجين في غياهب البيوت والنّسيان والتّجاهل والتّهميش بجريمة أنّهم من ذوي الحاجات الخاصّة،الكثير سخروا من طفلته التي عدّوها عاجزة ليس من حقّها أن تحلم بقلم ودفتر وكتاب وصف ومعلمة وسبّورة ودرس. ولكنّه صمّم وزوجته على أن يهباها حقّها موفوراً دون نقصان،وانتصر لأبوّته العظيمة،وداس على العيب والخجل ونظرة المجتمع وتابواته الظّالمة،وقرّر أن يفاخر الدّنيا بطفلته “ديمة”،وأن يهبها حقّها كاملاً مهما كلّفه الأمر.
وبدأت رحلة الحلم،وفي طريقها تعثّر الدّكتور عبد الجليل وزوجته بعشرات الأطفال من ذوي الحالات الخاصّة في مدينتهم،وقرّرا أن يفتحا الأبواب لكلّ من يصرخ من خلفها من الأطفال ذوي الحالات الخاصّة الذين يحلمون بقلم ودفتر وكتاب وسبّورة. وكانت نواة مشروع “معهد ديمة ” في عام 1999 بتسجيل “ديمة” مع مجموعة من طالبات التّربية الخاصّة في مدرسة الفردوس برعاية المعلمة المخلصة المكافحة نعيمة يحيى عطيّة بعد أن قدّم الدّكتور عبد الرزّاق تبرّعات لافتتاح صف كامل لذوي الحاجات الخاصّة وقام بتصليحات وترميمات في المدرسة التي كانت في أمسّ الحاجة لهذه التّصليحات،ثم تطوّر المشروع،واستقلّ ليصبح في عام 2007 “معهد ديمة لذوي الحاجات الخاصّة” الذي أُفتتح بتمويل كامل من طرف د.عبد الرزّاق،وبدعم من ابنة أخته الدّكتورة رشا اللامي التي قدّمت هدايا عرسها كاملة لهذه المؤسّسة حيث رأت أنّ الفرح الحقيقيّ يكون في العطاء لا في التّملك والمتعة الشّخصيّة،هكذا علّمتها أمّها،وهكذا أدركت وأمّها معنى الحياة والوجود والإنسان،وكان بيت العائلة القديم هو المكان الحنون للأطفال الفراشات من أطفال النّجف من ذوي الحاجات الخاصّة،وبدأت المدرسة تستقبل طلبتها،وتُقدّم لهم المكان والعلم والكتب والتقييم والتّرفيه وتنمية المواهب بالمجّان،وتقاطر الأطفال محملوين على أذرع ذويهم الذين وجدوا أخيراً بصيص لنور لأبنائهم الذين يعيشون في وحدة وحزن وفراغ ومعاناة.
واتّسع المشروع ليصبح حقيقة لكلّ أبٍ وأم يحلمان بأن يحظى طفلهما أو طفلتهما بحّقه بالتّعلّم حتى وإن كان من ذوي الحاجات الخاصّة،واتّسعت المدرسة،وتعدّدت الصّفوف والمستويات،وأُستقبلت حالات مختلفة من ذوي الحاجات الخاصّة،وغدا ” معهد ديمة” مثالاً مميّزاً وفريداً في مدينة النّجف بل في العراق كلّه على الخدمة المجتمعيّة التي يجب أن يقوم بها الأفراد تجاه وطنهم وأبنائه.
هذا المشروع الذي نجح عبر سنوات طويلة في أن يزرع الأمل والفرح في قلوب طاهرة شاء المولى عزّ وجلّ أن تُولد مبتلاة بحاجاتها الخاصّة ،أستطاع أن يغيّر في عقليّة محافظة مغلقة ترى المرض سُبّة،وترى الاختلاف عيباً،وترى الضّعف جريرة، لكنّهم سرعان ما غيّروا مفاهيمهم،وانتصروا لمشاعرهم الأبويّة التي تُملي عليهم أن يستسلموا لفرص أبنائهم،وأن يلحقوهم بهذا المعهد،وأن يكونوا شهوداً على أفراحهم وهم يتعلّمون،وأن يخرجوهم من سجونهم في المنازل،وأن يواجهوا الدّنيا بهم فخورين بحالاتهم،وأن يعلّموا من حولهم أنّ الحياة تستحق العناء والمكابدة،ولا يجوز حرمان أيّ طفل من حقّه في الفرح والسّعادة والعلم بجريمة لم يقترفها.
” ديمة” الابنة الصّغيرة أصبحت رمزاً في مدينة النّجف لكلّ طفل من ذوي الحالات الخاصّة،وباتت أيقونة فرح تهب لكلّ من يأتي إلى مؤسّستها سبباً للحياة والتّعلّم والفرح.
لا تزال هذه المؤسّسة تتّسع،وتستقبل المزيد من الأطفال،ولا تزال تُدار برعاية الدّكتورة أنوار الكويتيّ زوجة الدّكتور عبد الرزّاق التي استقالت من عملها كطبيبة نسائيّة وتوليد لتتفرّغ للعناية بابنتها “ديمة” وللعناية بطلبة المعهد،لاسيما أنّها هي من تقوم باستقبال الطّلبة،وتختبرهم،وتصنّفهم وفق حالاتهم،ولا يزال الأطفال يقصدون “معهد ديمة” لينتزعوا به حقّهم في التّعلم ،ولا يزال المعهد يموّل بشكل شخصيّ من الدّكتور عبد الرزّاق ومن الدّكتورة رشا اللامي التي تسكن في بريطانيا،ولكنّها على الرّغم من البعاد والغربة تقوم بواجبها تجاه وطنها العراق خير قيام.
وعندما تسلّم الدّكتور عبد الرزّاق رئاسة جامعة الكوفة في الفترة الممتدة بين ( 2006-2011)- وهو من ارتقى بالجّامعة لتكون الجّامعة العراقيّة الأولى في عهده،وليحصل هو ذاته على جائزة أفضل رئيس جامعة عراقيّ- استطاع أن ينقل إليها فلسفة الشّراكة بين المؤسّسات التّعليميّة الحكوميّة والمؤسّسات المدنيّة لينشر ثقافة خدمة الفرد لوطنه عبر العمل التّطوعيّ،وقد استضافت الجّامعة أكثر من حفل تكريميّ وتخريج لطلبة “معهد ديمة” الذين عرفوا حلاوة الاندماج مع المجتمع،ومارسوا إنسانيتهم بالفرح والسّعادة،وحملوا شهادات تخرّجهم دون أن يُعاقبوا بقسوة لأنّهم وُلدوا أطفالاً ذوي احتياجات خاصّة.لقد حفر الدّكتور عبد الرزّاق العيسى ابتسامات طلبة “معهد ديمة” في ذاكرة جامعة الكوفة وفي سِفْر إنجازاتها وفي ذاكرة النّجف الأشرف الذي ما انفكّ يهدي العلم والتقى للبشريّة جمعاء.
لقد انتصرت أبّوة الدّكتورعبد الرزّاق العيسى وأمومة زوجته الدّكتور أنوار الكويتيّ على تابوات المجتمع،وصمّما على أن تعيش ابنتهما “ديمة” في النّور لا في الظّلام،وفخرا بها،و فخرا بأنّهما أبوين لطفلة تعاني من “متلازمة داون”،وجعلا من فكريهما وقلبيهما ومعهدهما منارة حبّ وعلم لكلّ أطفال النّجف من ذوي الحالات الخاصّة،لقد اتّسع قلباهما ليكون بحجم قلوب الآباء والأمّهات أجمعين.
اليوم في لحظة كتابة هذا التّقرير تعلو أصوات الطّلبة في ” معهد ديمة” يردّدون أنشودة الصّباح فرحين،وهم يمارسون حقّهم في التّعلم والفرح والاندماج في المجتمع،و” ديمة عبد الرزّاق العيسى” طالبة جميلة في المرحلة الثانويّة النّهائيّة،وهي تتقدّم إلى الامتحان الوزاريّ مثل أيّ طفلة لا تعاني من أي تأخّر عقليّ أو جسديّ،وتنافس على النّجاح لتدخل إلى الجّامعة مستسلمة لحلم العلم الذي تشاركه مع الأطفال الذين غدا اسم ” معهد ديمة” هو زورقهم الوحيد في العراق الجريح الذي أنهكته الحروب والفتن.
وتقول نعمة يحيى عطيّة مدير المعهد :” يقدّم المعهد للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة مجموعة من البرامج والمناهج والتّقنيات والخدمات التّربويّة والنّفسيّة والاجتماعيّة من أجل مساعدتهم على تنمية مهاراتهم وقدراتهم إلى أقصى حدّ ممكن،وهي الرّعاية الفعّالة والخدمات العلميّة والخدميّة المتخصّصة التي تقدّم للأطفال على اختلاف حالاتهم وقدراتهم الذّهنيّة والبدنيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة،وتعدّ إحدى الوسائل ذات المضامين الإنسانيّة التي تقدّم فرصاً متكافئة للأطفال على اختلاف مستوياتهم،مع الإشارة إلى أنّ سنّ القبول في المعهد هو سن السّادسة،كما أنّ معلمة كلّ صف هي معلّمة متخصّصة ترافق الأطفال وترعاهم فضلاً عن أنّها تعلّمهم،كما أنّ المنهج الوزاريّ الرّسميّ هو المنهج الذي يدرّس في المعهد دون حذف أو إضافة،ويدمج الطّلبة ذوي الحالات الخاصّة مع أقرانهم دون عزل أو تمييز أو إقصاء،وذلك في غرف صفيّة مناسبة لائقة بهيجة وصحيّة مرتّبة ونظيفة ومزيّنة،وتحتوي على متطلبات العمليّة التّعليميّة كاملة”.
كم يحتاج العراق ويحتاج الوطن العربي والإسلاميّ إلى آباء مثل الأستاذ الدّكتور عبد الرزّاق عبد الجليل العيسى وأمّهات مثل الدّكتورة أنوار الكويتي والدّكتورة رشا اللامي لتنمو أوطاننا،وتزهو بالعدل والخير والمحبة والإخاء! ما أحوجنا إلى إنسانيتنا وإلى بشر يعرفون أنّ قيمة الإنسان فيما يُعطي لا فيما يملك ويأخذ ويدّخر ويكنز! كم من “ديمة” في أوطاننا سُرق حلمها! نحن في حاجة إلى استرداد قدرتنا على أن نحلم بقلم ودفتر وسبّورة وشمس وحريّة وفجر قريب…
[IMG]http://im50.gulfup.com/BZuJwb.jpg[/IMG]
[IMG]http://im50.gulfup.com/oXeUsN.jpg[/IMG]
[IMG]http://im50.gulfup.com/aYflbH.jpg[/IMG]
[IMG]http://im50.gulfup.com/5JeQa7.jpg[/IMG]