[B][COLOR=#090909]يتحسس الطالب محمد أبو كرس 16 عاما، من مدينة بيت لحم، لوحا خشبيا ذا ثقوب متقاربة. وبين الفينة والأخرى يضع حزمة من القش داخل تلك الثقوب ويشدها بحبل لكي يوازنها ويحكم قبضتها، ويستمر في العمل إلى أن يصنع مكنسة يدوية، دون أن ترى عيناه ما صنعت يداه.
أما في وقت فراغه، فيفضل محمد صناعة الخيزران بعد أن استطاع خلال فترة وجيزة إتقان هذه المهنة المفضلة لديه، كونها مهنة تعطيه الثقة بأنه شخص فاعل في المجتمع رغم فقدانه نعمة البصر.
محمد ليس الطالب الوحيد الذي تبدع يداه ما لا تبصره عيناه، ففي هذا المكان، المدرسة العلائية للمكفوفين في مدينة بيت جالا، طلبة يافعون من ذوي الإعاقة البصرية المتعددة، الذين يتقنون صناعة الخيزران بمختلف مراحلها من قص باستخدام الآلات وتجميع وتركيب وتصينع الكراسي العربية بأنواعها الصغيرة والكبيرة، وحتى الخزائن.
دهشة عذبة
قد تشعر بالفخر الممزوج بكثير من الدهشة حين تتجول في مكان تدريب وتأهيل الطلبة من ذوي الإعاقة البصرية داخل المدرسة العلائية، لما يعرضوه من منتجات وأشكال فنية وإبداعية. حتى أن الأمر ذهب ببعض الطلبة المكفوفين إلى ابتكار وصناعة بعض المستلزمات المنزلية مثل الكرسي المتأرجح والسلة والمزهرية بأشكال وأنواع مختلفة، قد يعجز بعض المبصرين عن تنسيقها بالطريقة التي خرجت عليه.
استطاع الطالبان أحمد ابو جديان (15 عاما) من قطاع غزة، ويحيى أبو حلوان (19 عاما) من مدينة نابلس، إنشاء موقع إلكتروني ناطق ومتخصص لذوي الإعاقة البصرية دون مساعدة أحد أطلقوا عليه اسم “غرفة المتحدين”
يبدأ التدريب وصناعة الخيزران غالبا في الفترة المسائية، فهنا يتعلم الطلاب بعض المهن والحرف التقليدية، من أهمها صناعة القش والخيزران بأشكاله وأنواعه المختلفة والنجارة لاكتساب مهنة شريفة، إضافة إلى الدراسة الأكاديمية. وبذلك يتخرج الطالب من المدرسة متعلما أكاديميا ولديه مهنة يحترفها.
وقال مدرب صناعة الخيزران محمد أبو سرور “نعلم طلبة ذوي الإعاقة البصرية صناعة الخيزران بأشكاله المختلفة، مثل صناعة المكانس والكرسي العربي والطاولة وبعض الأواني المنزلية والأشكال الفنية الخيزرانية، إضافة إلى قسم النجارة، وتعليم الطلبة على كيفية التعامل مع آلاتها. وكذلك خراطة الخشب وتكوين أشكال هندسية بواسطة هذه الآلات، وعمل ثقوب لما يستعملونه في صناعة الخيزران”.
ولا ينكر أبو سرور أنه يواجه صعوبة في تعليم هؤلاء الطلبة صناعة الخيزران أو النجارة، ولكن الصعوبة تتفاوت من طالب إلى آخر، فصحيح أن الطالب المبصر يكون لديه إدراك كامل لما يدور حوله من أعمال، ويرى بعينه كيفية وطريقة العمل والإنتاج، بعكس الشخص الكفيف الذي يوظف حاسة اللمس القوية، والفهم السريع لإضاءة الفكرة في ذهنه.
ولم يتوقف إبداع طلبة ذوي الإعاقة البصرية في المدرسة العلائية عند هذا الحد، بل شمل أيضا مجال التكنولوجيا والكمبيوتر والمعلومات، إذ استطاع الطالبان أحمد أبو جديان (15 عاما) من قطاع غزة، ويحيى أبو حلوان (19 عاما) من مدينة نابلس، إنشاء موقع إلكتروني ناطق ومتخصص لذوي الإعاقة البصرية، دون مساعدة أحد أطلقوا عليه اسم “غرفة المتحدين”.
وهنا يقول أحمد أبو جديان “صحيح أن استعمال الكمبيوتر ليس سهلا ولا سلسا بالنسبة للطالب الكفيف، ولكن بالصبر والجهد والعزيمة وإرادة التعلم يجد المرء نفسه قد تعلم وأصبح يتعامل مع الكمبيوتر بطريقة سلسة وسهلة دون مساعدة أحد. وأضاف “استعمال الكمبيوتر مكنني من الاطلاع على كثير من الأشياء، وفتح لنا مجال للإبداع والتميز”.
وشعار أبو جديان في الحياة قائم على “اصبر على مرارة العمل تلقى حلاوة التوفيق والنجاح”، لذلك يرنو من تعلمه للكمبيوتر أن يساعده ذلك في التواصل والعمل بشكل أفضل حين يغادر المدرسة، خاصة في عملية الدمج في المجتمع المحلي.
ويقول أحمد “آمل أن يساعدني استعمال الكمبيوتر على سرعة الاندماج في المحيط المحلي، خاصة بعد أن أضحت وسائل التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي تشكل ركيزة أساسية في الحياة العصرية”.
وبدوره يشدد يحيى أبو حلوان على أهمية أن يكون لذوي الإعاقة بصرية أجهزة كمبيوتر خاصة بهم، حتى يسهل عملية العيش في مجتمع يعتمد على التكنولوجيا الرقمية، وكذلك الاندماج في المحيط التعليمي كالجامعي، من خلال الاطلاع على أهم وأحدث البحوث والمراجع والدراسات العالمية والحديثة. كما أنه يسهل عملية البحث وإعداد وتقديم دراسات وبحوث علمية قد يقدمها الطالب ذوي الإعاقة البصرية.
أيقونة النجاح
وقد مثلت هذه المدرسة حضن الإبداع الذي زرع في هؤلاء الطلبة تحدي المواصلة. وبالنظر إلى ذلك كله أيضا تخصص المدرسة فترة لتعليم الموسيقى لبعض الطلبة المكفوفين، كما تقدم خدمات أكاديمية وتعليمية لذوي الإعاقة البصرية من مختلف محافظات الضفة الغربية وقطاع غزة.
ويتلقى 43 طالبا من مختلف أنحاء محافظات الضفة الغربية وغزة تعليمهم المدرسي في المدرسة العلائية للمكفوفين ورعاية الأطفال ذوي الإعاقة البصرية.
الصبر على مرارة العمل تلقى حلاوة التوفيق والنجاح
ويصر مدير المدرسة العلائية للمكفوفين مصباح حجازي، على وصف طلبة ذوي الإعاقة البصرية بالفنانين والمبدعين، لأنهم استطاعوا تحدي إعاقتهم من خلال الإصرار على التعلم والإنتاج والابتكار والإبداع، إلى أن أصبحوا في كثير من الأوقات متفوقين على المبصرين.
ويفتخر حجازي بوجود 16 معلما من أصل 21 يدرسون في المدرسة، كانوا في الأصل طلبة وحصلوا على شهادات علمية عالية من خلف مقاعد المدرسة العلائية. لذا يقول حجازي إن الهدف من دمج التعليم الأكاديمي بالتعليم المهني هو إيجاد أكثر من فرصة لطالب ذوي الإعاقة البصرية ودفعه، وإتاحة الفرصة أمامه لكي يكون شخصا فعالا ونشطا ومنتجا في المجتمع، علاوة على إكسابه خبرات علمية ومهنية تؤهله ليعتمد على نفسه سواء كان طالبا جامعيا وصاحب شهادة علمية، أو صاحب مشروع ومهنة تدر بالفائدة على المجتمع الفلسطيني.
وتعكف المدرسة العلائية على وضع برامج تعليمية وتدريسية لذوي الإعاقة البصرية في جميع المدارس الفلسطينية لدمج طلاب المكفوفين في المدارس العادية، كما أن المدرسة بصدد الإعداد لافتتاح مكتبة إلكترونية ناطقة وصوتية شاملة بالتعاون مع بعض الجمعيات والمؤسسات.
تعتبر المدرسة العلائية أقدم مؤسسة اجتماعية لرعاية المكفوفين وذوي الإعاقة البصرية على مستوى الشرق الأوسط، فقد تأسست سنة 1938، في مدينة الخليل على يد الكفيف صبحي طاهر الديجاني أبو جرير.
وتمكنت المدرسة من طباعة وتوزيع نسخ من القرآن الكريم في الوطن العربي، إضافة إلى عدة قواميس ومعاجم ترجمة وأطالس جغرافية للطلبة المكفوفينن فمجلة “العهد” كان يقرأها المبصر والمكفوف على حد سواء.
ويشيد ممثل الاتحاد العام لذوي الإعاقة في بيت لحم عوض عبيات، بالخدمات الأكاديمية والتعليمية والمهنية التي تقدمها المدرسة العلائية للطلبة المكفوفين، ويقول “لقد أتاحت الفرصة للطلبة من ذوي الإعاقة البصرية تعلم اختصاصات الكمبيوتر بالإضافة إلى مهن أخرى تعد نقلة نوعية في الواقع الفلسطيني. وهي منجز حضاري واجتماعي وثقافي وإنساني نفخر به كثيرا، تجسد خلال السنوات الماضية بفئة مثقفة لها حضورها في المجتمع المحلي”.
وقد استطاع طلبة وأساتذة ذوي الإعاقة البصرية الاعتماد على أنفسهم في خدمة بعضهم البعض داخل المدرسة العلائية للمكفوفين. لكن يبقى ذلك رهين جدارن المدرسة في حال لم تتغير النظرة السلبية تجاه ذوي الإعاقة.[/COLOR][/B]